جدة – عبدالهادي المالكي- إيمـان بـدوي
عادت الحياة لطبيعتها في المملكة؛ بفضل المجهودات الكبيرة المبذولة من الدولة -أيدها الله- للحفاظ على صحة أفراد المجتمع من خطر فيروس كورونا، الذي تسببت عزلته الطويلة في آثار نفسية سيئة على البعض، من بينهم الطلاب، فعند العودة لمقاعد الدراسة حضورًا بدأت تظهر هذه الآثار على بعض الطلاب والطالبات، فمنهم من فضل الابتعاد عن الآخرين، ليعيش في عزلة لرغبته في ممارسته حياته الخاصة عبر الأجهزة الإلكترونية، وآخرون لازمتهم فوبيا الجائحة، ولا يزالون يستمرون في تطبيق الإجراءات الوقائية بالرغم من إعلان رفعها؛ خوفًا من الوقوع في براثن المرض الذي أرهق العالم، لذلك قال تربويون ونفسيون لـ”البلاد”: إن علاج “عزلة كورونا” يتمثل في التوعية المستمرة للطلاب والطالبات وتنفيذ برامج وأنشطة فنية متنوعة، فضلًا عن تنظيم مبادرات تتحدث حول مفهوم السعادة بالبقاء مع الآخرين وخدمة المجتمع.
تقول رائدة نشاط المدرسة الثانوية الـ67 فائزة الشنبري: “مع عودة الدراسة حضوريًا لمسنا مخاوف بعض الطالبات من مزاولة الحياة الطبيعية ولا يزال هذا الشعور يلازم بعضهن، فمنهن من ترغب في الدراسة عن بعد، والعزلة الاجتماعية والبقاء لساعات رهنًا للأجهزة الإلكترونية، لذلك انطلقت مبادرة “لنسعد”؛ إذ ولدت الفكرة من قبل الطالبات والمعلمة” إلهام رواس”، بينما ساهمت رائدة النشاط في تكوين الفكرة وإنزالها على أرض الواقع. لقد لمسنا تشجيعا من أولياء الأمور وبعض المدارس الأخرى وعدد من مراكز الأحياء الذين شاركوا في المبادرة. وكانت رغبة الطالبات ملحة في التفاعل معها بشكل كبير، فالمبادرة تحمل بين طياتها جانبا إنسانيا، وآخر اجتماعيا، وقد قدمنا العديد من المحاضرات والاستشارات من خلال أخصائيات نفسيات، بالشراكة مع مركز للاستشارات الأسرية”. وأضافت: “على جميع المدارس تهيئة الطالبات اجتماعيًا للاندماج في المجتمع والابتعاد عن العزلة بعد جائحة كورونا، وذلك عن طريق شراكة مجتمعية مع مراكز الأحياء والاستشارات الأسرية لبناء مجتمع سعيد، فنحن نملك وطنا عظيما وخططا استراتيجية، تتمحور حول أهداف رؤية 2030 التي تعبر عن روح طموحة تعانق السماء”.
وأكدت وكيلة الثانوية 67 نادية المغربي، أن مبادرة “لنسعد” حققت المأمول والهدف من إطلاقها، وساعدت في تخلص بعض الطالبات من شعور الاكتئاب والرغبة في العزلة، كما أن المبادرة ساهمت في تقليل حالات التنمر. وتابعت: “لمسنا شغف الطالبات والمعلمات لتنفيذ المبادرة، وكان هناك تجاوب من جهات أخرى من خلال بعض الشراكات المجتمعية، ويجب على كل مدرسة ألا تكتفي بالجانب التعليمي فحسب؛ بل تؤدي دورها من ناحية التأهيل الاجتماعي للطالبات. وفي حال تعاونت جميع الأطراف ومنسوبات المدرسة من خلال تنظيم وإطلاق مبادرات تحسن صحة الطالبات، وتحقق رفاهيتهن داخل البيئة المدرسية وخارجها، فستتحقق نتائج إيجابية ملهمة”.
وتمضي نادية بالقول: “لنعالج المشاكل المجتمعية التى تؤثر على الطالبة لدرجة تدني مستواها العلمي لابد من جهود توعوية اجتماعية كبيرة؛ لنحصل على شخصية متزنة وسعيدة. ورسالتي لكل معلمة هي: كوني أُمًا قبل أن تكوني معلمة، وسارعي لفعل الخير”.
أنشطة وبرامج تثقيفية
يرى معلم التربية الفنية بجاد العتيبي، أن الاكتفاء بالعملية التعليمية- فحسب- خطأ تقع فيه الكثير من المدارس، معتبرًا أن تأهيل الطلاب اجتماعيًا مهم للغاية، مضيفًا: “أعتقد أنه كلما زادت قدرة الطالب على التعامل والتأقلم مع المجتمع بصورة جيدة كلما كان أداؤه الدراسي ممتازًا، لذلك لابد من وضع أنشطة وبرامج تثقيفية تساعد الطالب على مجابهة الضغوط بشكل عام، واقترح أن تكون هناك محاضرات مستوحاة من علم التنمية البشرية وتطور الذات التي تساعد بشكل فعال على الخروج من المآزق النفسية التي قد تعترض الطالب”.
ومضى العتيبي قائلًا: “من الجميل أيضا تكثيف دروس علم النفس، ولكن بشكل خارج عن المنهج المألوف والتقليدي، بحيث يصبح الطالب متزنًا بصورة أكبر، فكوني معلم تربية فنية أحب دائمًا أن يكون معلم التربية الفنية قادر على ممارسة دوره من خلال إطلاق بعض المبادرات الفنية المرتبطة بالفنون كالمعارض التشكيلية، التي تجعل الطالب ينخرط مع أفراد المجتمع، ويلتقي بهم في مساحات واسعة، كما أن الفن له دور لا يستهان به في تفريغ الطاقة السلبية من خلال الرسم وتبديد بعض الأفكار السلبية التي قد تؤذي صاحبها، فالرسم وبعض الأعمال الفنية تساعد بشكل جيد في بناء جسر تواصل مع الذات أولًا، ثم مع الآخرين. وأرى أن الحالات التي تحتاج للعلاج من العزلة ليست كثيرة، ولكن حتى يصبح المجتمع سليمًا علينا عدم إهمال هذه الفئة التي مرت بفترة صعبة على الجميع، سواء أن كان الحجر أو فقدان عزيز، ففترة كورونا كانت عصيبة جدًا دون شك، وتركت رواسب ليس من السهل تلاشيها بالنسبة للبعض، فالجميع ليس لديهم نفس القدرات في التعامل مع الأزمات الحياتية، كما أن بعض أبنائنا وبناتنا لم تتشكل شخصياتهم بعد، ولم تتدرب ذواتهم على تجاوز الضغوط، وقد يكون ما عشناه خلال فترة كورونا أول ضغط حياتي يواجههم، ومن واجب كل مدرسة ألا تكتفي بالعملية التعليمية فقط؛ بل تضع على عاتقها مسؤولية التوعية الاجتماعية”.
دراسة حالات وعلاج
قال الخبير التربوي عبدالله المطيري: إن نسبة الطلاب الذين يعانون من الآثار النفسية لكورونا ليست عالية، مبينًا أن المعالجة تتطلب القليل من الجهد لتنفيذ برامج موجهة بشكل مباشر من خلال الموجه الطلابي في كل مدرسة، لدراسة الحالات وعلاجها، أو بشكل غير مباشر من خلال برامج ومبادرات نوعية من شأنها إذابة الآثار الاجتماعية للجائحة. مضيفا: “دعني أتحدث بما أرى لا بما أسمع، وأنقل ما يحدث من الميدان، لا ما ينقل عنه، فقد ودعت طلابي قبل الحجر، واستقبلتهم بعد العودة، ولم ينقطع طالب عن زميله ولا معلم عن طلابه، بل كان التواصل مستمرًا وفعالًا من خلال التعليم المتزامن في منصة مدرستي خلال الجائحة في بث مباشر بالصوت والصورة لكل حصة. وكانت هناك مشاركة رائعة وتفاعل بالتغذية الراجعة على مدى اليوم والعام الدراسي بكل فصوله، وإن كانت هناك حالات خاصة تأثرت بالجائحة”.
وواصل المطيري حديثة، قائلًا: “مما لا شك فيه أنها كانت محنة حبلى بمنحة، فإنجازات الأبناء تتحدث عن النبوغ في زمن الجائحة، آخرها التميز في المسابقة الدولية” إنتل آيسف” للعلوم والهندسة بالولايات المتحدة الأمريكية، التي حقق فيها طلاب المملكة 22 جائزة، ما يعكس مستوى عاليًا لمؤشر التعليم في الميدان الدولي، الذي انعكس إيجابًا على العمل في الميدان المحلي، ولو استمرت الجائحة -لا سمح الله- فهناك دائمًا خطط استراتيجية تتكيف مع جميع الظروف من شأنها بناء الإنسان الذي يبني الأوطان”.
تحفيز للعودة الطبيعية
اعتبرت المستشارة الأسرية دعاء زهران، أن النقاش المستمر والتحفيز للعودة الطبيعية في المدارس مهم للغاية خلال هذه الفترة، وهذا ما وفرته مبادرة “لنسعد” في الثانوية 67، مؤكدة أن أول لقاء تم في إطار هذه المبادرة، ناقش الكثير من المواضيع والعقبات التي تواجه بعض الطالبات، مضيفة: “توصلنا إلى أن جائحة كورونا وعلى الرغم من أنها وباء قلب كيان العالم، إلا أن إيجابيات فترة العزل أكثر من سلبياتها”، مفسرة بالقول: “خلال تلك الفترة أعدنا اكتشاف أنفسنا، وتعزز لدينا حب الأسرة، والمشاركة في جميع تفاصيل البيت والعائلة، ما خلق بداخلنا روحًا جديدة، وبالمقابل كانت هناك سلبيات للطالبات عقب العودة للنشاط المدرسي متمثلة في انعزالهن عن الآخرين، مع عدم مقدرة على العودة للحياة الطبيعية والاختلاط مع المجتمع الخارجي، ومقابلة من حولهن بدون حواجز أو كمامات، لذلك دار حوار طويل مع عدد منهن، واقتنعت الكثيرات أن العودة للحياة الطبيعية بصورة اعتيادية أفضل للجميع”.
وتابعت: “بدوري كمستشارة أسرية واجتماعية ونفسية، أرى أن المبادرة كانت رائعة، وسأكون إلى جانب الطالبات والمعلمات حتى يتحقق مقصدهن، لمساعدتهن في التخطيط لمواجهة وتجاوز العقبات الصعبة”.
التفاعل الاجتماعي يبعد الأطفال عن «العزلة»
أكدت استشاري علم النفس العيادي وأستاذ مشارك بجامعة الملك عبدالعزيز الدكتورة عبير خياط، أن الأطفال فقدوا الكثير من مهارات التواصل الاجتماعي خلال الفترة الماضية، وذلك بسبب توقف الأنشطة الاجتماعية المتنوعة على مدى عامين.
وأضافت: “لقد مر أكثر من عامين تقريبًا عن الأنشطة الاجتماعية التي كان يقضي فيها الأطفال عادةً وقتًا خارج المنزل أو المدرسة للتواصل الاجتماعي مع أقرانهم، فمن خلال التفاعل الاجتماعي يتعلم الأطفال مهارات التفاعل والتعاطف والأعراف الاجتماعية؛ لذلك يجب أن نساعدهم لتعويض العزلة والخروج منها بأقل الخسائر”. وتابعت: على الآباء أن يستغلوا تواصلهم مع أبنائهم للتحدث معهم عن مميزات التواصل الاجتماعي وما يتضمنه من فوائد؛ أبرزها فهم بعضنا البعض وإيجاد الحلول للمشكلات المختلفة. وأقول للآباء: شجعوا أبناءكم على التعبير عن توترهم ومخاوفهم. وعليكم أن تكونوا قدوة لهم في الحفاظ على الهدوء تجاه الأحداث المقلقة، فهم يرون العالم من خلالنا”.
ونوهت الدكتورة عبير إلى أنه من الضروري الاهتمام بالطلاب، وملاحظة أي سلوك انسحابي، أو أي تغيير سلبي عليهم، كالحزن أو الرفض أو اللا مبالاة، كما يجب على المدرسة وأولياء الأمور تشجيعهم على التعبير والحديث عن مشاعرهم، مع التوضيح لهم بأن الخوف قد يجعل الأمور أسوأ، مشيرة إلى أن التعليم الصحي المناسب قد يجعلهم أكثر وعيًا وتقبلًا وتأقلمًا، ما يقودهم لممارسة الحياة بصورة سليمة دون ذعر، مردفة بالقول: “من الجميل أن تدرج مادة العلوم ضمن منهجها موضوع فيروس كورونا، وانتقاله وأهمية اللقاحات تجاه الأمراض المعدية المختلفة، ومن ثم نشر معلومات صحية عنها. كلما ثقفنا الطالب بشكل أوسع، كلما أصبح خوفه أقل، ما يجعله يعيش حياة اجتماعية طبيعية، وبالتالي ينعكس ذلك على مستقبله ومواجهته للتحديات الصحية أو الاجتماعية بصلابة وفكر إيجابي”.