بالرغم من مرور ألفي عام على وفاة أرطبون الفلسفة وصاحب كتاب ” الجمهورية ” أفلاطون الذي صاغ فيه محاوراته الفلسفية على لسان سقراط ليقاوم بها الفكر السفسطائي إلا أن تأثير فكره ووجاهة منطقه وتلاعبه الذكي في جر خصمه الى أفخاخ فكره مازالت جميعًا مدرسة معتبرة في الفلسفة والعلوم والموسيقى والاجتماع وعلم النفس وغيرها.
لماذا ؟ لأن أفلاطون أعمل الفلسفة والمنطق واستخدم الأداة الأقدر لتحقيق هذا الغرض وهي ” الفكر الناقد ” الذي يذهب خلف الواضح من المعاني وينقب عن المضمر منها فتراه يتعامل مع الشيء وضده ويتناول المعقول واللامعقول ويسائل الواضحات ويوضح المبهمات ويقسم الكل ويجمع المجزأ.
هذا المذهب الأفلاطوني الفريد صنع ثورة في العقل البشري الباحث عن حقائق الأمور، بل إنه جعل أفلاطون يقوم بـ”فلترة” أتباعه وينشئ لعلية القوم من المتعلمين أول أكاديمية عرفها التاريخ عند سفوح جبال الأكروبوليس في أثينا ويمنع غير المتبصرين من دخولها
وهكذا هي الفلسفة بفكرها الناقد تجعل الباحث وطالب الدراسات العليا في مزاج معرفي عالٍ وفي موقع لا يقبل بالأمور كم ترد في سياقاتها العامة ! فالباحث المعتبر يتأمل القضايا تحت البحث ثم يتناولها بالتحليل الدقيق ثم ينظر الى الآراء المتباينة المتاحة حولها وصولا الى اتخاذ موقف محدد وأخيرًا صنع قرار ذاتي وذو طابع مستقل حيال الظاهرة التي يقوم بدراستها.
لذلك فإن إدراج روح الفلسفة والمنطق من خلال أداتهما الموثوقة وهي ” الفكر الناقد ” في مدارسنا وجامعاتنا والذي تأخر كثيرًا لا يعد ترف بقدر ما هو محاولة إنقاذ ما يمكن انقاذه من براثن الأحكام العاطفية تجاه الظواهر وتخليص للفكر من التعامل السطحي مع القضايا المحكّية قيد البحث والاستقصاء والتفحص.
وجدير بالتعليم الجامعي اليوم بما لديه من خبرات أكاديمية أن يشعل فتيل الفكر الناقد من خلال ادراج مقررات ذات طابع عملي حول مهارات التفكير الناقد وعقد دورات وملتقيات وأمسيات فلا يكاد ينتهي الطالب من الجامعة إلا وهو على قدر مقبول من سلامة المنطق ورجاحة العقل وتمام الجاهزية لإكمال دراساته العليا حين يرغب في ذلك.
إن الانتقال الى الفكر الناقد يعني التفكير فيما يفكر فيه الآخرون Thinking about thinking وهو سلوك راشد يصنع فردًا له لسان سؤول وقلب عقول وهو منقبة في زمن لم يعد للجهل فيه مكان فالآلة وهي صماء عمياء باتت تقيس الأمور وتحلل البيانات وتصنع القرارات بذكاء فكيف بالإنسان الذي صنعها وبرمجها وهداها الى رشدها: هل يعجزه أن يصل إلى هذا الدهاء؟
linguist_abdul@yahoo.com