هناك من يعتقد بأن تعديل أو تغيير المألوف والمعتاد يمثل تعديا غير مقبول لقناعتهم بأنه الأمر الصحيح الذي ينبغي الالتزام به والسير بموجبه وعدم الخروج عن إطاره في كل الأحوال. وينظرون إلى من يكسر المألوف بأنه يرتكب خطأً فادحاً في حق الآخرين. دون أن يعرفوا الأبعاد ويفكروا في النتائج كونهم يقدّمون أحكاماً مسبقة حسب ثقافتهم حتى لو كان العائد أفضل وأجمل للجميع.
وما دعاني للتطرق لذلك ما تذكّرته ونحن على مقاعد الدراسة بالصف الأول بمعهد المعلمين الثانوي بالباحة، قبل نحو نصف قرن حيث جاءنا معلم مصري قدير اسمه أحمد يدرس مادة التربية الفنية وفوجئ بأن جميع طلاب المعهد يحملون كراسات الرسم العادية ومعها علب الألوان الشمعية أو الخشبية التي اعتادوا عليها من قبل! ولأنه يرى عدم مناسبتها لطلابِ يجري إعدادهم لتعليم مادة التربية الفنية وغيرها فقد طالبهم بإحضار ألوان مائية أو زيتية وقطعٍ من الورق بحجم أكبر للرسم عليها، وهنا ثارت ثائرة الطلاب مبدين احتجاجهم على هذه الطلبات التي لا لزوم لها حسب قناعاتهم واعتبروه مطلباً مبالغاً فيه وأنه لا مبرر له خاصة وأن العلبة منها تكلف خمسة ريالات بينما علبة ألوان البلاستيك التي يستخدمونها عادة لا تزيد عن نصف الريال!
وزاد الاحتجاج ووصلت الشكوى لإدارة المعهد وربما لإدارة التعليم وغيرها باعتباره يطالب بخرابيط لا أهمية لها من وجهة نظرهم المحدودة. وكان قوياً في موقفه وأنه لن يقبل طالباً في حصته لا يحمل تلك الأدوات حتى لو اقتنع غيرهم برأيهم، لدرجة أنه أطلق عليه الطلاب اسم “أحمد خرابيط” وذاع الاسم كثيراً واشتهر به في المنطقة ولم يعلموا أنه يحمل رسالة ويسعى لتحقيق هدف وتركِ أثر على طلابه. وأذعن الطلاب أخيراً بعد أسابيع وأحضروا المطلوب منهم على مضض، ليس حرصاً على مستقبلهم ولكن خوفاً منهم على ما قد يحدث لهم بسبب تعنتهم، فكان بحق معلماً متميزاً بالفعل بدأ بتحسين الطريقة وتعليم الطلاب بأسلوب مختلف تماما ..
بعيدا عن التقليدية وهو ينقلهم في فصل الخريف أمام الأشجار المجردة من أوراقها لرسمها وإعطاء مساحة للون والخيال وهو يطبق في تعليمه بعض المدارس الفنية بطرق غير مباشرة حتى قويت علاقة الطلاب بمعلمهم وأقبلوا على الرسم بشغفٍ وارتياح شديد لاستخدام تلك الألوان بطريقة رائعة ليكتشف عدد من الموهوبين الذين أرسلت بعض رسوماتهم المدهشة إلى الوزارة كما فهمنا ذلك في حينه. والطريف في الأمر أنه أقيم معرض فني لأعمال ورسومات الطلاب المميزة افتتحه معالي أمير المنطقة حينذاك الشيخ سعود بن عبدالرحمن السديري -رحمه الله- وهو رجل إدارة وثقافة حيث شاهد نقلة في مستوى المعرض عما كان يقام من قبل في المنطقة لامست إعجابه فرغب في مقابلة معلم المادة الذي قدم نفسه على الفور وعرف باسمه -كما أخبرنا- بأنه أحمد خرابيط ويبدي اعتزازه بهذا الاسم لأنه أوجد شيئاً جديداً ومفيداً وترك أثراً إيجابياً بإعداد تربويين يمكن أن يؤدوا واجبهم التربوي التعليمي في تدريس المادة بكثير من الوعي وأنهم سيذكرونه ويتذكرونه فيما بعد.
alnasser1956@hotmail.com