جدة – البلاد
التاريخ ليس سردا لأحداث مضت ، إنما قيمة عظيمة لمستودع الخبرات الإنسانية ، وكتاب مفتوح لحياة الأمم والشعوب ، يوثق أحداثها ، وسير أبطالها ، ومتغيرات مراحلها .. وبقدر ثراء وتحديات تجاربها تكمن مفاتيح تطورها ،خاصة مايتعلق بالدولة والحفاظ على الهوية الوطنية ، فعندها – تحديدا – يكون التاريخ ملهما للأجيال في الاعتزاز بالانتماء والولاء ، والإخلاص في تعظيم شأن ومكانة الوطن.
والتاريخ العريق للمملكة العربية السعودية ، حافل بهذه القيمة العظيمة لنموذج الهوية الوطنية ، التي تجلت بداياتها في تأسيس الدولة السعودية الأولى قبل 300 عاما، على يد الإمام محمد بن سعود ، حيث أدرك جيدا بعمق بصيرته دروس التاريخ وواقع صراعات وفرقة (دويلات المدن) في الجزيرة العربية ، فالتقى فكره وعزمه في توحيد الأرض والإنسان، وأسس الدولة السعودية وعاصمتها الدرعية، لتبزغ شمسها استقرارا وبناءً ، ولمواطنيها أمناً ونماءً.
الأمر الملكي بإعلان يوم (22 فبراير) من كل عام يوماً لذكرى تأسيس الدولة السعودية، باسم (يوم التأسيس)، ويصبح إجازة رسمية ، صدر عن النظرة التاريخية العميقة للملك سلمان بن عبد العزيز للدولة السعودية، وما عُرف عنه ، حفظه الله ، من اهتمام وتدقيق وتحليل متمعن حصيف بتفاصيل أحداث وشخوص وأمجاد تاريخنا الوطني ، وبإعلان “يوم التأسيس” تعزز المملكة العربية السعودية ارتباطها بجذورها التاريخية والإرث الحضاري لهذه الدولة المباركة، ، وارتباط مواطنيها الوثيق بقادتها على مدى ثلاثة قرون.
واليوم وفي ذكرى “يوم التأسيس يحتفي الوطن بهذه المناسبة الغالية، وهو يشهد حاضرا زاهرا بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود -حفظهما الله- ويصنع مستقبلا واعدا ،برؤية طموحة الفكر والأهداف ، وروح الإنجاز غير المسبوق الذي يتردد صداه في العالم.
بحقائق التاريخ ودلالات عراقته في “تأريخ” نشأة الدولة السعودية الأولى، أشار الأمر الملكي إلى مرحلة تأسيسها في منتصف عام 1139هـ (1727م) واستمرت إلى عام 1233هـ (1818م)، وعاصمتها الدرعية ودستورها القرآن الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أرسته من الوحدة والأمن في الجزيرة العربية، بعد قرون من التشتت والفرقة وعدم الاستقرار، وصمودها أمام محاولات القضاء عليها، إذ لم يمضِ سوى سبع سنوات على انتهائها حتى تمكن الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود عام 1240هـ (1824م) من استعادتها وتأسيس الدولة السعودية الثانية التي استمرت إلى عام 1309هـ (1891م)؛ وبعد انتهائها بعشر سنوات، قيض الله الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود عام 1319هـ (1902م) ليؤسس الدولة السعودية الثالثة ويوحدها باسم المملكة العربية السعودية، وسار أبناؤه الملوك من بعده على نهجه في تعزيز بناء هذه الدولة ووحدتها.
من هنا يعد يوم التأسيس أحد مفاخر هذا الوطن الغالي، فالدولة السعودية في أطوارها الثلاثة امتدت لأكثر من ثلاثة قرون، فكان عهد الإمام محمد بن سعود عهد تأسيس للدولة وتهيئة للفترات اللاحقة، حيث حكم أربعين عاما قضاها في القيادة والتأسيس، ثم يكمل بعده أبناؤه وأحفاده مسيرة بناء الدولة السعودية وإعلاء رايتها خفاقة في ظل الأمن الوارف والازدهار المستدام الذي ننعم به اليوم في مملكة الخير والعزة.
دولة الاستقرار.. لادويلات
تولى الإمام محمد بن سعود الحكم في ظروف استثنائية بالغة الدقة ، حيث عانت الدرعية قبيل توليه الحكم من الفرقة والشتات ، إلا أنه بحكمته وحنكته السياسية، تغلب على تلك التحديات واستطاع توحيد الدرعية برمزيتها ومكانتها في تاريخ الجزيرة العربية تحت حكمه الرشيد وتأسيس الدولة السعودية الأولى، امتدادا لعراقة أمجاد الأجداد في تحقيق الاستقرار والوئام المجتمعي إلى ما يقارب الـ600 عام، حينما أسس مانع المريدي مدينة الدرعية وهو الجد الثاني عشر للملك عبدالعزيز ، طيب الله ثراه ، مؤسس المملكة العربية السعودية، وهذا أيضا إرث تاريخي عظيم وأصيل لهذه الدولة العريقة.
وبالعودة إلى الدولة السعودية الأولى وعاصمتها الدرعية قبل أكثر من ثلاثة قرون، تبدو الرمزية العميقة لفكرة ومقومات (الدولة) لدى الإمام محمد بن سعود، والدفاع عنها في مواجهة المخاطر والأطماع الخارجية، حيث عمل خلال حكمه على نشر الأمن وتنظيم الموارد. فقد كانت فلسفة الحكم في شبه الجزيرة العربية قبل تأسيس الدولة السعودية الأولى تنضوي تحت ما يعرف بـ “دويلات المدن ” في معظم مناطق الجزيرة العربية، بسيطرة الحاكم على مدينة أو بلدة أو قرية فقط ويكون مستقلاً عن غيره، وكان ذلك بابا للصراعات ، وغياب الاستقرار، وهو ماغيره الإمام محمد بن سعود بإمارته للدرعية بتوحيد المناطق تحت سلطة سياسية واحدة بمهوم الدولة، ولهذا استقرت الدولة السعودية الأولى أكثر من أربعين سنة من عمرها، نعم خلالها المجتمع بالأمن وتنظيم الموارد، بعد قرون من التشرذم ، وأدركوا معنى الاستقرار وأهمية الوحدة السياسية تحت راية الدولة لأمن الرزق والحياة مهما كلف الأمر، حيث ازدهرت الزراعة والتجارة والصناعات والحرف اليدوية التي تعني “الاقتصاد المجتمعي” في المفهوم المعاصر ، كما شهد عهد الإمام محمد بن سعود ، ازدهار العلم والتعليم ، وانتشرت حلقاته في المساجد فعرفوا صناة الأحبار بطرقها البسيطة.
سماته وشمائله
تحلى الإمام محمد بن سعود برؤية ثاقبة، فقد درس الأوضاع التي كانت تعيشها إمارته والإمارات التي حولها بشكل خاص ووسط الجزيرة العربية بشكل عام، وبدأ منذ توليه الحكم التخطيط للتغيير عن النمط السائد خلال تلك الأيام، فأسس لمسار جديد في تاريخ المنطقة تمثل الوحدة والتعليم ونشر الثقافة وتعزيز التواصل بين أفراد المجتمع والحفاظ على الأمن. وقد كان له من الأبناء أربعة، وهم: عبد العزيز، وعبد الله، وسعود، وفيصل.
كان محباً للخلوة والتأمل والتفكر، وهو ما يدل على شخصيته في الاستقراء والتأني والرؤية المستقبلية. ذكر الثقات من المخبرين عن شأن محمد بن سعود أنه كان رجلاً كثير الخيرات والعبادة، وكان أبوه سعود وجده محمد أميرين على إمارة الدرعية، وهما أكبر قومهما. وكان جده محمد كريم الطبيعة، ميسر الرزق، له أملاك كثيرة من نخل وزروع. وتوفي الإمام محمد بن سعود ، رحمه الله ، عام 1179هـ (1765م) بعد أربعين عاماً من قيادة الدولة الأولى .
عاصمة التأسيس
تقع الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى وسط الجزيرة العربية، وتحديداً في إقليم اليمامة الذي يحتل مساحة كبيرة من الجزيرة العربية، بطول ما يزيد على 1000 كم من الشمال إلى الجنوب ، وعرضه 500كم، وتتوسطه سلسلة جبال طويق الشهيرة. أسست عشيرة “المردة” من “الدروع” من بني حنيفة مدينة شرقي الجزيرة العربية على ساحل الخليج العربي، أطلقوا عليها اسم “الدرعية” نسبة إلى العشيرة، وذلك بعد ان انتقلوا من وسط الجزيرة العربية في القرن الرابع الهجري لظروف عدم الاستقرار آنذاك، ونتيجة لعودة عشائر بني حنيفة إلى حجر اليمامة بعد عودة الاستقرار إليها تلقى مانع بن ربيعة المريدي الحنفي وهو في بلدته الدرعية شرق الجزيرة العربية دعوة ابن عمه حاكم مدينة حجر في اليمامة وهو ابن درع للقدوم بالعشيرة والاستقرار في منطقة أجداده وأسلافه.
انتقل “مانع بن ربيعة المريدي الحنفي” وأفراد عشيرته من الدرعية في شرق الجزيرة العربية إلى وسطها لتأسيس الدرعية الجديدة عام 850هـ (1846م). وقد عبر خلال رحلته من شرق الجزيرة العربية رمال الدهناء القاحلة مؤمناً بشخصيته المستقلة الراغبة في تأسيس دولة واسعة تحقق الأمن والاستقرار، وهو ما أورثه ذريته من بعده، استقبل ابن درع ابن عمه وعشيرته في وادي حنيفة، وأقطعه موضعي “غصيبة” و “المليبيد” اللذين يقعان شمال غرب مدينة حجر، فجعل مانع “غصيبة” مقراً له ولحكمه وبني لها سوراً، وجعل “المليبيد” مقراً للزراعة، ويعد هذا الحدث أبرز أحداث الجزيرة العربية في العصر الوسيط، فقد كان قدوم مانع اللبنة الأولى لتأسيس أعظم دولة قامت في المنطقة في تاريخ الجزيرة العربية بعد دولة النبوة والخلافة الراشدة.
مجتمع الدرعية
وفد إلى مجتمع الدرعية خلال فترة الدولة السعودية الأولى كثير من الذين أصبحوا جزءاً من الدولة السعودية الأولى، سواء كانوا من التجار أو من طلبة العلم. وكان هؤلاء الوافدون من طبقات مختلفة، ومع مرور الوقت ازداد عدد سكان الدرعية ازدياداً كبيراً، وتوسعت رقعة مساحتها، وأصبحت مقصد طلاب العلم، وقبلة أرباب التجارة، وموئل الباحثين عن الرزق ، واتصف أئمة الدولة الأولى بصفات العرب النبيلة، كالكرم والمروءة والشجاعة والوفاء والحلم. وكان مجلس الإمام مفتوحاً لإسقبال المواطنين يدخلون عليه يومياً.
كما اهتم أئمة الدرعية بدعم العلم والتعليم، وكانوا لا ينقطعون عن مجالس العلم في حلهم، وبعد سنوات من قيام الدولة السعودية الأولى واستقرارها ، قدم إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ونتيجة لمناصرة الإمام محمد بن سعود الدعوة الإصلاحية وحمايتها، قام الشيخ بنشر العلم الشرعي.
العرضة السعودية
خلال عام 1178هـ (1765م) في عهد الإمام محمد بن سعود في أثناء هجوم عريعر بن دجين زعيم الأحساء ومعه دهام بن دواس أمير الرياض على الدرعية، واشتداد الأمر على قوات الدولة السعودية، الذين أحسنوا البلاء في الصمود والتصدي، عزم الأمير عبدالعزيز بن محمد بن سعود على رفع معنويات الفرسان المقاتلين. فأمر في آخر مطلع النهار بإقامة العرضة خارج السور، فأثار ذلك روح الحماسة والشجاعة في نفوس المقاتلين، فقُلبت بذلك موازين القتال، وأصبح النصر حليفاً لهم وألحقوا بالمعتدين شر هزيمة.
ومع مرور الزمن وتوحيد أطراف الجزيرة العربية تحت حكم الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود طيب الله ثراه عام 1351هـ (1932م) واستتباب الأمن والأمان في البلاد تحت راية التوحيد لم تندثر العرضة بل ظلت باقية.
أبرز أعمال الإمام محمد بن سعود
• توحيد شطري الدرعية وجعلها تحت حكم واحد بعد أن كان الحكم متفرقاً في مركزين.
• الاهتمام بالشؤون الداخلية وتقوية مجتمع الدرعية وتوحيد أفراده.
• تنظيم الأمور الاقتصادية للدولة.
• بناء حي جديد في سمحان وهو حي الطرفية، وكان مركزا للحكم مدة طويلة.
• نشر الاستقرار في الدولة في مجالات متنوعة.
• الاستقلال السياسي وعدم الولاء لأي قوة، في حين أن بعض بلدان نجد كانت تدين بالولاء لبعض الزعامات الإقليمية.
• ارساله أخاه الأمير مشاري إلى الرياض لإعادة دهام بن دواس إلى الإمارة بعد أن حدث التمرد عليه بناءً على طلب دهام المعونة من الدولة السعودية الأولى.
• التواصل مع البلدات الأخرى للانضمام إلى الدولة السعودية، وقدرة الإمام الكبيرة على احتواء زعاماتها وجعلهم يعلنون الانضمام للدولة والوحدة.
• بناء سور الدرعية للتصدي للهجمات الخارجية القادمة إلى الدرعية من شرق الجزيرة العربية.
• توحيد معظم منطقة نجد وانتشار أخبار الدولة في معظم أرجاء الجزيرة العربية.
• القدرة على تأمين طرق الحج والتجارة فأصبحت نجد من المناطق الآمنة.
• النجاح في التصدي لعدد من الحملات التي أرادت القضاء على الدولة في بدايتها.
كلمات ملوك المملكة
* الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود:
«لقد ملكتُ هذه البلاد التي هي تحت سلطتي بالله ثم بالشيمة العربية، وكل فرد من شعبي هو جندي وشرطي، وأنا أسير وإياهم كفرد واحد، لا أفضل نفسي عليهم ولا أتبع في حكمهم غير ما هو صالح لهم حسبما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم».
* الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود:
«تولينا حكم المملكة العربية السعودية، معتزين بهذا التراث المجيد الذي ورثناه كابراً عن كابر، والذي أسس على تقوى الله وطاعته، دستوره القرآن الكريم، وعماده سنة محمد صلى الله عليه وسلم، فعلى أسسه نحن ماضون».
* الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود:
«إن ايمان هذا الشعب بالله، وتماسكه وتفانيه في خدمة وطنه والكفاح في سبيل استقلاله وحريته هو السبيل الذي أوصل هذا الشعب وهذا البلد الكريم إلى ما هو عليه الآن».
* الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود:
«استطاع الملك عبد العزيز وبفضل الله أن يؤسس هذا الكيان الكبير، ليعيد له الأمن بمعايير يعز على الآخرين الوصول إليها، ويحقق لشعبه أفضل مستويات الحياة الإنسانية المرفهة والمستقرة، حتى أصبحت بلادنا مضرب الأمثال في العزة والكرامة والتقدم والازدهار».
* الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود:
«قامت الدولة السعودية الأولى منذ أكثر من قرنين ونصف على الإسلام، وعلى منهاج واضح في السياسة والحكم والدعوة والاجتماع».
* الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود:
«إن بلادنا ولله الحمد شهدت منذ تأسيسها على يد الموحد الملك عبد العزيز – يرحمه الله – نهضة حضارية شاملة، استهدفت الإنسان السعودي في عيشه وعمله وأمنه وصحته وتعليمه».