ذكريات

د. بكري عساس المدير السابق لجامعة أم القرى لــ(البلاد): المبتكرون والمخترعون مستهدفات التعليم الجامعي

جدة – البلاد

عندما دعا الدكتور بكري عساس المدير السابق لجامعة أم القرى قبل عشر سنوات الجامعات السعودية بأن تستغل فرصة الرخاء لإيجاد مصادر دخل بديلة مؤكدا أن “دوام الحال من المحال” قوبل بأصوات معارضة تحذر من وضع الجامعة تحت رحمة رجال المال خاصة حين قال ان على الجامعات الاهتمام بالاقتصاد المعرفي وبث ثقافة الأوقاف والهبات. معاليه يتذكر هذه الأيام وما كتبه حين كان مديرا لجامعة أم القرى تحت عنوان ” الجامعات السعودية والرؤية اليوسفية” ..

وفي حوار الذكريات يستعيد بداياته وكيف تعلم من اصدقائه الأفارقة الذين شاركوه العيش في حي المسفلة بمكة لغة الهوسا ثم محطات من مشواره الدراسي داخل وخارج المملكة وعمله في جامعة الملك عبدالعزيز قبل ان يعود إلى أم القرى مستشارا ووكيلا ومديرا لجامعتها مستعرضا مشواره مع العمل الجامعي وكيف اسهم في ان يجعله في خدمة المجتمع .. ويتوقف مليا أمام تجربتي معهد خادم الحرمين لأبحاث الحج ووادي مكة للتقنية .. ويتذكر حكاية المصعد مع الوزير الافريقي وحكايات كثيرة من اوراقه يتضمنها هذا الحوار مع “البلاد”:

• د. بكري ابن مكة المكرمة والمعلم الذي أصبح مديرا لجامعتها .. مشوار عطاء يغرينا بأن نسأل عن النشأة والبدايات وأهم المحطات في مسيرته التعليمية وشكل الحياة التي عاشها في هذه المراحل.
•• كانت البداية من مدرسة الناصرية الابتدائية بحارة المسفلة، ثم الانتقال بعدها إلى المرحلة المتوسطة فكانت السنة الأولى في مدرسة خالد بن الوليد بأجياد وبقية السنوات في مدرسة بلال بن رباح بالمسفلة والتي حصلت منها على الشهادة المتوسطة، لأنتقل بعدها لمدرسة مكة الثانوية التي حصلت فيها على الثانوية العامة وكنت بفضل الله الثالث على خريجي ذلك العام. ثم رشحت لدراسة الهندسة في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن والتي كانت كلية في ذلك الوقت، وبعد شهرين انتقلت الى جامعة أم القري والتي حصلت منها على البكالوريوس في الرياضيات والفيزياء وكنت بفضل الله تعالى الأول على الدفعة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى في ذلك العام. وتوجتها بتوفيق الله بحصولي على درجة الدكتوراه في الإحصاء التطبيقي من جامعة ويلز البريطانية. وخلال هذه الفترة والتي امتدت لسنوات تقريباً كنت اساعد والدي -رحمه الله- في أعماله التجارية المتعددة أكسبني ذلك خبرة كبيرة في إدارة المشاريع والعمل الإداري والتعامل مع الآخرين وهذا كان النمط السائد في تربية الآباء لأبنائهم في تلك الفترة.

مبتكرون لا موظفون
• كيف كان الاهتمام بالشباب في هذه المرحلة ؟ وكيف تقارنها بالوضع الحالي حيث جعلت « رؤية 2030 « الشباب مرتكزا لإدارة دفة التنمية ؟
•• المملكة العربية السعودية ولله الحمد بلد حباها الله بنعم كثيرة فهي قلب العالم الإسلامي النابض بوجود الحرمين الشريفين وشرفها الله كذلك برعاية الركن الخامس من أركان الإسلام حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا فقدمت الغالي والنفيس لرعاية الحرمين الشريفين وعمارتها وخدمة الحجاج والمعتمرين ويشهد على ذلك التوسعات المتتابعة التي قام بها ملوك هذه البلاد بدءاً من توسعة الملك المؤسس وانتهاء بتوسعة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله.
ومعروف أن المملكة أكبر بلد في العالم في تصدير النفط الذي يتم استخراجه بكميات كبيرة من باطن الأرض، ومعروف أن النفط مادة لها عمر محدود ففي دراسات قام بها معهد بريطاني متخصص منذ سنوات تبين أنه بسبب الاستهلاك الداخلي المتزايد للنفط في دول الخليج نتيجة لزيادة عدد السكان السنوي الكبير فإنه من المتوقع أن تكون هذه الدول من الدول المستوردة المواد للمزاد البترولية من الخارج بحلول عام 2050م، لذلك تم وضع الرؤية من قبل رجل الرؤية والتحول ولي العهد حفظه الله وفي جوهرها إيجاد مصادر بديلة للدخل في المملكة، وبمعنى آخر الاعتماد على العقل البشري وما ينتجه من اختراعات وابتكارات بغير حدود بدلاً من اعتمادها على الموارد الطبيعية والتي لها عمر محدود. وهذه الرؤية لا يمكن أن تنجح إلا بإيجاد مجتمع يتعامل معها ويتكيف مع متطلباتها، وأهم عنصر في نجاح الرؤية هم شباب هذا البلد والذي يجب على الجامعات اعداد جيل جديد من الخريجين بخبرات جديدة بمعنى أن على الجامعات تخريج شباب مبتكرين ومخترعين ورواد أعمال يساهمون في خلق الوظائف وليسوا شبابا متعلمين يبحثون عن وظائف في الدولة كما كانت مهمتها في السابق.

 

الجامعة أعطتني الكثير
• تدرجتم في المواقع الأكاديمية بجامعة الملك عبدالعزيز ثم عدتم الى مكة المكرمة مستشارا متفرغا في جامعة أم القرى للأعمال والابداع المعرفي .. ماذا تعني المسؤولية عن «الاعمال والابداع المعرفي» هذا المصطلح الذي كان جديدا في حينه ؟.. ثم اصبحت مديرا للجامعة لثماني سنوات فماذا قدمت لها وماذا قدمت لك ؟
•• شرفت بالعمل في جامعة أم القرى كمستشار وبعد أن تم إنشاء وكالة الجامعة للأعمال والإبداع المعرفي كنت أول وكيل لهذه الوكالة ومن ثم نلت ثقة خادم الحرمين الشريفين لقيادة أعرق جامعة تقع في أطهر البقاع. وقيادة الجامعات تختلف كلياً عن قيادة أي مؤسسة أخرى لأن المدير في هذه الحالة يدير مجتمعا من النخب إذا جاز التعبير فيه علماء وأدباء ومفكرون وأطباء وصيادلة ومهندسون تخرجوا من مدارس مختلفة وجامعات مختلفة فيجب أن يكون على مستوى النخب في التعامل والإدارة. في وكالة الأعمال الإبداع المعرفي كانت مهمة الوكالة في البداية هي نشر ثقافة الإبداع والابتكار وبراءات الاختراع بين مجتمع الجامعة وكانت مهمة صعبة وتم تجاوزها بنجاح بتوفيق الله أولاً ثم بدعم الدولة وهمة ونشاط منسوبي الجامعة وكانت من نتيجتها انشاء وادي مكة للتقنية الواجهة الحضارية للجامعة ومصنع لتخريج رواد الأعمال ولإنتاج براءات الاختراع والأفكار الإبداعية التي تم تسويقها من قبل الشركات الناشئة في الوادي.
وخلال تشرفي بإدارة الجامعة والتي امتدت لأكثر من ثماني سنوات ونصف بين التكليف والتعيين هناك الكثير من النجاحات ولله الحمد والمنة حصلت بتوفيق الله تعالي وبدعم الدولة ثم بهمة ونشاط منسوبي الجامعة الكرام والذين شرفت بالعمل معهم خلال تلك المدة. أما الجامعة فقد قدمت لي الكثير من أهمها شرف العمل مع نخبة المجتمع.

المرجع البحثي الوحيد
• في هذه الأثناء كنت المشرف على النتاج الهندسي والتطوير والتنموي لمعهد خادم الحرمين لأبحاث الحج .. هذا المعهد الذي اعتبرتموه البوابة الحقيقية للجامعة على العالم .. مما يجعلنا نتساءل عن دور الجامعة في خدمة المجتمع المحيط بها .. وماذا عن أبرز انجازات المعهد في خدمة الحج والعمرة وضيوف الرحمن والعالم الإسلامي؟
•• يعتبر هذا المعهد من مراكز القوة لجامعة أم القري والمرجع البحثي الوحيد في كل أمور الحج والعمرة، فمن هذا المعهد خرجت الكثير من الأفكار البحثية التي ساهمت في حل الكثير من العقبات التي كانت تواجه متخذي القرار في منظومة الحج والعمرة والتي من أهمها مشروع توسعة الجمرات، والرحلات الترددية لمركبات الحجاج، ودراسات النقل والحشود، وتوسعة الساحات، والهدي والأضاحي، والمواقيت وغيرها.

 

عقول وأصول
• وانتم على راس جامعة ام القرى كتبتم في الرابع من ديسمبر مقالات بعنوان « الجامعات السعودية والرؤية اليوسفية « .. طالبتم فيه الجامعات بان تستغل مرحلة الرخاء لأيام مصادر دخل بديلة .. مبررا ذلك بقولك « دوام الحال من المحال .. وذكرت تحديدا الاهتمام بالاقتصاد المعرفي وبث ثقافة الأوقاف والثبات.. وقابلت حينها بعاصفة معارضة حذرت من جعل الجامعة تحت رحمة رجال المال .. ما تفاصيل ما حدث؟ وكيف ترى الوضع في ظل نظام استقلالية الجامعات ؟
•• الاقتصاد المعرفي في معناه البسيط هو انتاج وتسويق المعرفة والجامعات مصانع لإنتاج المعرفة فيجب الاهتمام بالأبحاث المنتجة والتي يمكن استخراج براءات اختراع منها وتحويلها لمنتجات تسوق وبذلك يكون هناك دخل ذاتي للجامعة من هذه الأبحاث ففي السابق كانت الأبحاث فقط لترقية أعضاء هيئة التدريس أما الآن فنحن نعيش عصر الابتكار والإبداع وهذا ما تسير عليه الكثير من الجامعات العالمية فيجب على الجامعات البحث عن مصادر دخل بديلة عن ميزانية الدولة من توظيف البحث العلمي لخدمة المجتمع ومن الهبات والأوقاف وغيرها فمن المحال أن تستمر الدولة-رعاها الله- في تخصيص ميزانيات سنوية كبيرة للصرف على الجامعات. فعلى سبيل المثال في سنة 2020م، كانت إيرادات جامعة هارفارد الأمريكية وهي جامعة أهلية تقدر بحوالي 5 مليارات ونصف المليار دولار، لديها أوقاف قيمتها السوقية تقدر بحوالي 42 مليار دولار بعائد سنوي يصل إلى 7.3%، ولديها مصادر إيرادات أخرى على النحو التالي: 37% منها من التبرعات التي تتلقاها الجامعة من الشركات ورجال الأعمال والآسر الكبيرة، وحوالي 22% من الإيرادات تأتي من الأوقاف، و18% من البحوث المنتجة، و20% من رسوم الطلاب الدارسين، و3% من دخل السكن الجامعي. وقدر الدخل الكلي للجامعة بأنه يعادل دخل بعض دول من الشرق الأوسط. لذلك يجب على الجامعات العمل على هذا بتشجيع منسوبيها لزيادة الموارد الذاتية باستخدام العقول والأصول. وبدأنا نرى بعض الجامعات السعودية -ولله الحمد- بدأت السير في هذا الاتجاه وأكبر مثال على ذلك، جامعة الملك سعود بالرياض والتي قدرت قيمة أوقافها حسب أخر إحصائية بقرابة 4 مليارات ريال بعائد سنوي يقدر بحوالي 200 مليون ريال من دخل بعض أصلوها. وأتصور أن الأمر سيكون أفضل في ظل نظام استقلالية الجامعات السعودية من الرقابة الشديدة التي كبلتها لسنوات.

تأهيل وتمكين
• دعا الكثيرون الجامعات الى اعادة النظر في جودة وجدوى مخرجاتها لكي تكون قادرة على تلبية احتياجات الرؤية ومتطلبات التنمية .. كيف ترى واقع هذه المخرجات في ظل ما تعول عليه الرؤية؟ وهل انت مع هذه الدعوات ؟ وما المطلوب تحديدا من الجامعات ؟
•• ذكرت في البداية أهمية أن تكون المخرجات الجامعية تتماشى ومتطلبات السوق حالياً، فنحن نعيش رؤية تعتمد على إيجاد مصادر دخل بديلة للدولة وجوهرها الانتقال من الاعتماد على ما يجود به باطن الأرض إلى الاعتماد على ما يجود به العقل البشري السعودي ونعرف أن ما بداخل الأرض محدود وعطاء العقل ليس له حدود، فعلى سبيل المثال، الطبيب الذي كانت تخرجه الجامعات في السابق لا يحتاجه سوق العمل حالياً بل يحتاج طبيبا يتماشى والتقنية والانفجار المعرفي في كل المجالات وهكذا لبقية التخصصات، فيجب على الجامعات الابتعاد عن التلقين والاعتماد علي التأهيل والتمكين بمعني تمكين الشباب وتأهيلهم لخدمة بلدهم وسد احتياجات سوق عمل ( 2030 )، الذي يختلف بالكلية عن احتياجات سوق العمل في وقتنا الحاضر.

 

من خيول التنوير الى الإعلام
• قدمت للمكتبة العربية عدة كتب منها واحد بعنوان « معاد « والثاني « الى ان يشاء الله « الذي قدم له وعلى غير العادة وزيران سابقاًن ( د. خالد العنقري وزير التعليم العالي ود. فؤاد فارسي وزير الإعلام والحج ) .. ما هي حكاية التقديم غير العادي ؟ وما الرسالة التي حملها الكتابان؟
•• الكتابة والقراءة من الأشياء الجميلة التي تثري العقل البشري وكنت وما زلت أجد متعة فيها وهي هوايتي المفضلة وبفضل الله قدمت حوالي سبعة كتب تنوعت في محتواها بين العلوم (خيول التنوير)، وقصة حصولي على شهادة الدكتوراه من جامعة ويلز بعنوان (سنوات الدال)، وعن أطهر البقاع بعنوان (معاد) و(هذا البلد)، وعن تجارب الحياة والمواقف بعنوان (إلا أن يشاء الله)، وبعض من الأعلام ممن شرفت بمعرفتهم أو العمل معهم بعنوان(أعلام في حديث الذاكرة) وأخرها كان بعنوان (جامعة أم القرى … مواقف وذكريات)، وقد شرفت اصداراتي بالتقديم لها من مجموعة من أصحاب المعالي الوزراء وبعض أصدقائي من مديري الجامعات والأكاديميين وهذا شرف كبير أعتز به.

حكايتي مع الهوسا
• اخيرا .. ما الذي دعاك الى تعلم إحدى اللغات الأفريقية؟ وكيف تعلمتها؟ وهل بالفعل أجدتها؟ وهل تعرضت لمواقف طريفة بسببها؟
•• مكة المكرمة مدينة وفدت إليها ثقافات وأعراق وأجناس مختلفة استجابة لدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام، فتجد أبناء مكة يتحدثون أكثر من لغة، وبسبب نشأتي في حارة المسفلة والتي يسكن بها جالية افريقية كبيرة كان معظم أصدقائي المقربين لحد الآن من أبناء هذا الجالية الكريمة والتي تعلمت منهم لغة الهوسا على وجه التحديد وقد اجدتها تحدثاً. ومن أجمل المواقف في هذا الخصوص، أذكر في إحدى زيارات لجنة الدعوة في افريقيا للجامعة أن كان رئيس لجنة الدعاة الأفارقة من جمهورية نيجيريا، فتحدثت معه بلغة الهوسىا فسر بذلك كثيراً وأستغرب أن مدير جامعة سعودية يتحدث لغته وكان مجال فخر له، لدرجة أن رئيس اللجنة طلب مني الاستمرار في التحدث بها وكان موقفا جميلا جداً تبادلنا عنده الضحكات.
وموقف آخر أكثر طرافة حدث في فندق دار التوحيد بمكة أثناء قيامي بزيارة الوالدة -أطال الله في عمرها- خلال شهر رمضان المبارك (قبل الجائحة) وبالصدفة وأنا داخل المصعد دخل علينا أحد الوزراء من إحدى الدول الأفريقية مع مرافقيه، وكانوا يتحدثون بلغة الهوسا التي أجيدها، استمروا في الحديث داخل المصعد إلى أن توقف المصعد عند الدور الذي تسكن فيه الوالدة، وقبل مغادرة المصعد قمت بتحيتهم وتوديعهم ولكن باستخدام لغة الهوسا وعندها أوقف الوزير المصعد وقام باحتضاني وعم الضحك أرجاء الدور الرابع عشر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *