جدة – البلاد
قد تعرف أسماءها وأشكالها ، لكن لا تراها ولا تلمسها ، لأنها ببساطة ، أرقام ورموز يعرفها فقط من تعامل بها على شاشة حاسوب ، وعددهم قليل في العالم وإن كثرت أخبار “حيتانها” وأحلام صغارها بأرباحها.
إنها العملات المشفرة التي لا وجود مادي لها ، مقارنة بالعملات الحقيقية على مختلف مسمياتها وأقيامها وأشكالها ، والتي يتعامل بها مليارات البشر ويأمنون بها وعليها في حياتهم اليومية ، ويرحبون بالتطور المتسارع للتقنيات المالية والبنوك الرقمية القائمة والقادمة رسميا، كما تختلف “المشفرة” عن مشاريع عملات رقمية تستعد لإصدارها بعض الدول وسترتبط بعملاتها الوطنية ، ووفق ضوابط وأنظمة معتمدة وأوعية ومعاملات مالية شفافة وبالغة الدقة.
من هنا نبدأ إذا كنت ممن يفغرون أفواههم لأخبار أرباح العملات المشفرة ، وتتمنى لو جنيتها ، إليك بعض من خبايا وجهها الآخر”الخفي” وعالمها السري الذي لا تعرف فيه: من يديرها ، وأين هي أموالك ولو كانت آلافا قليلة أو دونها ، ولا لمن تبيعها ، ولا مسارها ومصيرها.
فرغم قصر عمرها منذ نشأة “بيتكوين” قبل عقود قليلة ، لا تزال قصة العملات المشفرة معقدة كتعقيدات رموزها وسراديب أرقامها العنكبوتية التي بلغت مئات المليارات من العملات ، لذا لم تفارقها شبهات ومخاطر تكشفها رسائل التوعية والتحذير الرسمية من الدول، إن كان من حيث غموضها البنيوي أو خسائرها المليارية المفاجئة التي كثيرا ما (تكنس) مثيلها من الأرباح وقد تلتهم الأصول بلعبة (الحيتان)، وهو بالمناسبة اسم وليس وصفا ، لكبار اللاعبين في دهاليز تلك العملات وعملياتها السرية ، غير الخاضعة لأنظمة وتنظيم ولا ضمان للأصول والحقوق التي قد تطير وتصير (في خبر كان) في “غمضة عين” وتقعد الحسرة أصحابها بعد أن سال لعابهم على أرباحها.
فالعملات المشفرة، التي بدأت بعملة “بيتكوين” عام 2008، هي سلسلة من برمجيات الكمبيوتر على شبكة “بلوكتشين”، ولا توجد أي سلطة تنظمها أو تضمن قيمتها، وتقوم على السرية التامة، فلا تعرف لها عنوانا ، ولامن يملكها ، ولا هوية المتعاملين بها ، وهذا ما جعلها منذ البداية قنوات خلفية سرية تحوم حولها شبهات أنشطة ومعاملات جرائم منظمة من تجارة مخدرات وغسل أموال عبر مايسمى” الويب المظلم”.
وإلى جانب “بيتكوين” و”إيثيريوم” وغيرها من عملات مشفرة تطل في العالم ، وتقوم على السرية المرعبة من حيث مجهولية الأصل والتعامل ، هناك أيضا عملات رقمية (خاصة) تصدر من شركات مثل العملة التي أعلن “فيسبوك” عن توجهه لاستخدامها “ليبرا دييم”. و”ليبرا” هي عملات رقمية مشفرة لكنها مربوطة بالدولار الأميركي.
مواجهة عالمية
على ضوء العالم المجهول تواجه العملات المشفرة منذ نشأتها إجراءات قوية من الدول للتوعية والحماية من مخاطرها ، وحاليا تتسع دوائر التنسيق الدولي ، وتحذيرات البنوك المركزية من تلك العملات ، ومؤخرا دخل بنك التسويات الدولية ، ويعد بمثابة البنك المركزي العالمي ومقره في سويسرا، على خط المواجهة حيث شن هجوماً عنيفا على العملات المشفرة والعملات الرقمية الأخرى التي تصدر عن قطاع خاص في العالم ، ووصفها بأنها “زائدة دودية” تضر بالنظام المالي العالمي ، ولا تخدم أي مصلحة عامة لنظم المدفوعات والتحويلات. وخلص التقرير إلى أن تلك العملات المشفرة وغيرها من العملات الرقمية (الخاصة) الأخرى ليست عملات ، بل أصول للمضاربات ، وتستخدم في حالات كثير لتسهيل غسل الأموال وغيرها من الجرائم المالية.
ولمحاصرة ما يروّج له مؤيدو تلك العملات من أنها توشك أن تصبح عملة تحويلات ومدفوعات مقابل السلع والخدمات، نفى تقرير بنك التسويات الدولية ذلك بشدة، مؤكداً أن تلك المشفرات أبعد ما تكون عن كونها عملة في الأساس.
في المقابل أوضح التقرير أن توسع البنوك المركزية في إصدار العملات الرقمية الرسمية المرتبطة بالعملات الوطنية يضع حداً لذلك الاضطراب الذي سببته المشفرات ويوفر السيولة والضمان، ويشكل العصب الرئيس لنظام مدفوعات رقمي عالي الكفاءة.
وفي إطار المواجهة الدائرة لمحاصرة التمدد السرطاني للعملات المشفرة ، بدا التوجه الأمريكي قويا لفرض لفرض ضرائب على المستثمرين في أسواقها من حملة الجنسية الأميركية ويعيشون في الخارج، ضمن خطوات تعزز معرفة استثمارات مواطنيها، بدءاً بالأصول المعروفة ووصولاً إلى العملات الافتراضية (المشفرة) في ظل اتهامات قوية بأنها تتحول إلى أبواب خفية لغسل أموال وتمويل عمليات مشبوهة.
في السياق ذاته سبق وأعلنت الشرطة البريطانية مصادرة ما يعادل نحو 180 مليون جنيه استرليني من العملة المشفرة في إطار تحقيق يتعلق بغسل أموال، وذلك في أعقاب تمكنها من مصادرة أخرى أخرى بما قيمته 114 مليون جنيه استرليني من العملة المشفرة في شهر يونية الماضي نظرا للاشتباه في جرائم غسل أموال ، كما حذرت هيئة رقابة مالية بريطانية من هكذا مقامرة ، بأن “الذين يستثمرون في العملات الرقمية المشفرة مثل “بيتكوين” عليهم أن يستعدوا لخسارة كل أموالهم”.
جانب تحذيري آخر شددت عليه “لجنة بازل للمراقبة المصرفية” المعنية بتنظيم عمل البنوك حول العالم ، هو أن العملات المشفرة ليس لها أي أصل حقيقي يمكن العودة إليه في حال انهيار القيمة، وهو ، بحسب اللجنة ، أمر وارد في ظل “ما تشهده أسعار تلك المشفرات من تقلبات هائلة”. وهكذا تكمن مخاطر عملات “الويب المظلم” وتبدو في مواجهتها معركة أوسع من جانب الدول والنظام المالي العالمي.