البلاد – مها العواودة – ياسر بن يوسف – أحمد الأحمدي
فقدت الساحة الصحفية والإعلامية السعودية أحد رموزها وروادها، الكاتب والأديب الدكتور عبد الله سليمان مناع، عضو مؤسسة البلاد للصحافة والنشر، الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى مساء أمس في إحدى المستشفيات الخاصة بجدة، بعد مشوار طويل من العطاء الصحفي والأدبي المتميز؛ امتد لأكثر من نصف قرن، تولى خلالها رئاسة تحرير مجلة “اقرأ” الصادرة عن مؤسسة البلاد للصحافة والنشر وقد شهدت في عهده تميزا في الطرح وحضورا في الفضاء الصحفي بالمملكة، وواكبت التطور الذي شهدته الصحافة السعودية.
د. القصبي ينعي الفقيد
رثى وزير الإعلام المكلف الدكتور ماجد القصبي ، الفقيد المناع، وقال في تغريدة: رحم الله فقيد الإعلام الدكتور عبدالله مناع، أحد الرواد الذين أفنوا حياتهم لخدمة الصحافة والأدب.
أحرّ التعازي لأسرته الكريمة ومحبيه.
إلى جانب دوره كقامة صحفية وكاتب بارز، أهدى الراحل أكثر من إصدار فكري وثقافي وفني للمكتبة السعودية والعربية، ومن مؤلفات الراحل “العالم رحلة عام 1988م”، كما صدر له كتاب “شيء من الفكر” عن نادي جدة الأدبي في 1992م و”امبراطور النغم” عن الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة في نفس العام 1992م.
واتسمت شخصية الفقيد د. المناع بمكانة مميزة في الأوساط الصحفية والإعلامية والثقافية ، كما تروي سيرته ومسيرته
قصة عشق للصحافة، التي من أجلها ترك مهنة الطب التي درسها وحمل شهادتها، ليسجل على مدى مشواره الثري بصمات قوية في شارع الصحافة والساحة الفكرية والأدبية، كما تقلد العديد من المناصب وأسندت إليه العديد من المهام في مجالات إعلامية مختلفة.
وبمشاعر الحزن، يرثي العديد من الشخصيات العامة والوسط الصحفي والأدبي، بكثير من المحبة والذكريات للفقيد الكبير:
لغة راقية
يقول الإعلامي، ورئيس تحرير جريدة الجزيرة السعودية خالد المالك :”في هذه اللحظات الحزينة التي نودع فيها زميلنا الراحل عبد الله مناع ندعو له بالرحمة، ونؤكد أنه واحد من رموز الثقافة والأدب والإعلام والصحافة في المملكة العربية السعودية؛ حيث تميز منذ بواكير شبابه وحين كان طالب طب في جامعة الإسكندرية في الكتابات المميزة له في صحيفة المدينة، ثم كاتبا في كل الصحف السعودية، ومن حسن حظ صحيفة الجزيرة في سنواته الأخيرة، أنه كان حاضراً فيها، واقتصرت كتاباته على ما ينشر في صحيفة الجزيرة بأسلوبه الشاعري المميز واللغة الراقية والحضور مع كل حدث وحديث”
كما أن نشاطه لم يقتصر على ما ينشر في الصحف والمجلات فقط، حيث ألّف مجموعة من الكتب تميزت بالطرح الراقي والموضوعية، وهو أحد المؤلفين في الساحة الثقافية إلى جانب كتابة المقالات المميزة.
رسالة ومهنة
ويرثي الدكتور عبد الواحد الحميد الفقيد د. المناع، بقوله: رحم الله الإنسان الرائع والكاتب الكبير عبد الله مناع، كان وطنيا مخلصا وكانت الصحافة بالنسبة له رسالة قبل أن تكون مهنة، تعلمت على يديه الكثير من مبادئ العمل الصحفي الملتزم تجاه قضايا الوطن والأمة؛ حيث كنت محررا في مجلة” اقرأ” التي كان رئيس تحريرها.
من جهته، قال الخبير الاقتصادي د.حسين شبكشي : ” إن الدكتور عبد الله مناع، ابن مدينة جدة ينتمي إلى جيل المبدعين والرواد في الأدب والفكر والصحافة السعودية، خلفيته العلمية الأكاديمية الطب، فهو طبيب أسنان، وله إنتاج غزير وعموده الصحفي من أهم الأعمدة الثرية الغزيرة والمهمة التي لها شجون سياسية وفكرية وأدبية بامتياز. اهتم بالأدب والشعر والثقافة والسياسة بشكل مميز. تأثر في تجربته بالإسكندرية، له إنتاج روائي قوي في الستينات، قدمه عن رواية تحكي قصة حب مابين شاب مبتعث سعودي وامرأة مصرية قبطية”.
إن سيرته الذاتية التي يحكي فيها أجزاء من حياته من أعذب السير الذاتية، وبرحيله يفقد الإعلام والفكر والثقافة السعودية أيقونة مميزة من علاماتها، وأضاف:” أعماله باقية وغيابه لايعوض”.
مدرسة صحفية
وقال الكاتب الصحفي المعروف محمد أحمد الحساني: رحم الله الأستاذ الكبير الدكتور عبدالله المناع، فقد كان أحد أعلام الصحافة والثقافة في بلادنا، وكان صاحب أسلوب صحفي مميز وأطروحات سياسية واجتماعية وثقافية راقية جدا، عرف بها على مدى 6 عقود، وكان مدرسة صحفية تخرج منها عشرات الصحفيين الذين أصبحوا فيما بعد بارزين في الصحف والمجلات الأخرى، وكانت مدرستهم مجلة” اقرأ” التي عاشت عصرها الذهبي، عندما أسسها في منتصف التسعينات الهجرية، وأنشأها من الصفر، فأصبحت بفضل رئاسته وإدارته وروحه الوثابة المجلة المفضلة لدى قطاع كبير من المثقفين في منطقة مكة المكرمة، بل وفي جميع أنحاء المملكة.
رجل المواقف
وقال الكاتب ” غسان حامد عمر ” : رحل عن دنيانا الأديب السعودي الكبير د. عبدالله مناع ، وقد عرفته قامةً كبيرة في الأدب العالمي والعربي، ومحلياً كموسوعةً لمدينة جدة التي أحبها.
كان الأديب المناع صاحب قلم ورأي في كثير من القضايا الهامة.
كتبت ذات مرة عمن رحلوا عنّا بصمت في هذه الظروف، ولم تتسن لنا فرصة وداعهم، ولا عزاء ذويهم: «أيها الراحلون بصمت قد عجزت أأفرح أم أبكي على صمت الرحيل، لن يكون هناك وداع أخير، ولا أيام عزاء ترهق كاهل ذاك الفقير».
محطات ماقبل الرحيل
يحق لنا أن نتساءل في يوم رحيل الدكتور عبدالله مناع.. من ينسى مناع ومفتونته جدة ؟ مثلما هو تساءل في مقدمة كتابه ” تاريخ مالم يؤرخ … جدة الإنسان والمكان”
ولد الدكتور عبدالله مناع، في حارة البحر عام 1359هـ، فأخذ من بحر جدة هواية الغوص في أعماق الأدب، وإن تخفت في معطف طبيب؛ شكّل حلمه، ليقوده إلى الإسكندرية، فاختار كلية طب الأسنان المطلة على البحر أيضًا، ويناديه بحر جدة؛ ليعين طبيب أسنان في المستشفى العام. وفي عام 1392هـ، ترك وزارة الصحة وتفرغ لعيادته وقلمه؛ ولأن العصفور ارتوى من البحر، حتى الثمالة؛ ملوحة وحرية، هجر العيادة، واستوطن الأدب. بعدها بعامين وتحديدًا عام 1394ه. وعلى شاطئ ” البلاد ” استقر عام 1974 ليؤسس، ويصدر مجلة” اقرأ”. وبعد أن أنهى مهمته انطلق كعادته باحثًا عن مغامرة أخرى، فرأس عام 1998 تحرير مجلة الإعلام والاتصال؛ ليحولها من إصدار نخبوي إلى وجبة تتخطفها أيادي القراء،
ويظل ابن الشاطئ أسيرًا لجدة وبحرها، في حكاية عشق طويلة امتدت 82 عامًا، إلى أن رحل عن دنيانا أمس.
رمز الأصالة ومنبر الأدب وصاحب الوفاء
د. عبدالله صادق دحلان
الكتابة عن الكبار في علمهم وثقافتهم وحياتهم الشخصية، من أصعب أنواع الكتابة؛ لأننا مهما كتبنا عنهم، فلن نوفيهم حقهم ولن نعطيهم مكانتهم التي يستحقونها، ولكن هذا لن يمنعنا من الاستمرار بالكتابة عنهم، وهذا ما يدفعني الى أن أكتب عن أخي الكبير وصديق عمري وأستاذي في الصحافة وصديق العائلة، أخي الدكتور عبد الله مناع، صاحب التاريخ العريق في الطب منذ الخمسينات، ورائد من رواد الأدب والثقافة والصحافة في العالم العربي بصفة عامة، وفي المملكة العربية السعودية بصفة خاصة، صاحب القامة الكبيرة في الكتابة الأدبية والصحفية. عرفته منذ أربعين عامًا، وتوطدت العلاقة معه في العشرين عامًا الأخيرة بالتواصل اليومي، بل التواصل أكثر من مرة يوميًا. عرفته في السفر وقضيت معه أياما وليالي حوارية طويلة في سويسرا والسعودية. صاحب مواقف ثابتة لا يتغير، ولا يتنازل عن مواقفه. صريح لدرجة قد تُضایق منه الآخرين. لا يجامل في الحق ولا يمدح من لا يستحق المديح، حاد في نقده ولا يهاب من ينتقدهم ، كتب وسط أشواك الصحافة، ولانت له الكلمة، وانحنی له الحرف، وهجرته حروف التشكيل لوضوح معاني كلماته، كتب فأطرب بكلماته عشاق الفن، وكتب وانتقد؛ فانهزم وتراجع من انتقدهم، وسجل المذياع تاريخ مدينته القديمة جدة، فلم يترك صورة جمالية قديمة لمدينة جدة ومجتمعها، إلا وسجلها وصورها وقدمها للمجتمع عبر الإذاعة السعودية، وأعقبها بكتابه التاريخي (تاريخ لم يؤرخ) جدة الإنسان والمكان؛ حيث يقول د. مناع عن سبب إصداره لهذا الكتاب ” لم يكن شغفي ولهفتي على كتابة تلك الأحاديث الإذاعية، من بين دوافعي – فيما بعد. لتحويلها إلى نص مكتوب، يقرؤه الناس بين دفتي كتاب.. لولا ذلك الاستقبال الحميمي الدافئ الذي فاجأني وأدهشني وأسعدني معا عند إذاعتها، فلم أكن أتصور أن لـ “إذاعة البرنامج الثاني” كل هذه الأعداد من المستمعين داخل جدة وخارجها؛ إذ لم تكن لتمر سوى بضع دقائق بعد إذاعة معظم الحلقات – إن لم يكن جميعها. إلا وأتلقى اتصالا هاتفيا أو اثنين إلى ثلاث، بعضها يثني، ويمتدح.. ما جاء فيها من معلومات وذكريات عن تلك الأماكن وأولئك الناس الذين لمعوا فيها، وبعضها يستفسر ويسأل عن مزيد من المعلومات. عن تلك الأمكنة، من حارات جدة، وما بقي.. وما لم يتبق منها، وعن أولئك الناس الذين طواهم الموت.. وبقي أريج ذكراهم الذي خلفوه، وتحدثت عنه تلك الحلقات، على أن البعض الثالث من تلك الاتصالات الهاتفية. كان يتساءل: داعيا ومحفزا لي على جمع تلك الأحاديث عند نهاية إذاعتها، وإصدارها في كتاب؛ باعتبار أن الكتاب هو الأحفظ لـ “الكلمة” على الدوام، والأقدر على الوصول بها إلى كل الناس.. وإلى كل الأزمنة .. والأمكنة وقد قدر ذلك البعض – مشكورا- بأن تلك الأحاديث. قدمت صفحات أو لمحات من تاريخ جدة الاجتماعي و الإنساني غير المكتوب، الذي ربما لم يعد يذكره حتى أبناء الخمسين والستين ربيعا.. فضلا عن الأغلبية من أبناء هذا الجيل وشبابه”.
عبد الله مناع العاشق الملهم لمدينته جدة، يعتز في كل موقف بجداويته، ويتباهی بشعر الشعراء الذين تغنوا بمدينة جدة، وعلى رأسهم الشاعر أحمد قنديل ابن برحات جدة، و( مزمارها)، ويردد شعره الدكتور مناع، وعلى وجه الخصوص :
“لك ياجدة الحبيبة في القلب وغصن الصبا عليك وريق
مكان محبب مألوف…..
طاف فيه صدي الجديدين بالأمس ومازالت الحياة تطوف ”
ويردد الدكتور عبد الله مناع بعض أبيات شعر قصيدة الشاعر المكاوي الجداوي حمزة شحاته؛ إذ يقول:
النهي بين شاطئيك غريق
والهوى فيك حالم ما يفيق
ورؤى الحب في رحابك شتی
يستفز الأسير منه الطليق
ومغانيك في النفوس العديات
إلى ربها المنيع رحيق
كم يكر الزمان متند الخطو
وغصن الصبا عليك وريق
إيه يا فتنة الحياة لصب
عهده في هواك عهد وثيق
نعم لقد سجل مناع التاريخ الجداوي القديم حتى من يقرؤه يشعر بذلك الزمن القديم، لقد نافست جدة في حبها عند المناع حبه لأمه التي أشرفت على تربيته من صغر سنه، وتولت مسؤولية تكوينه العلمي والثقافي، بعد أن توفي والده في مرحلة مبكرة جدا من طفولة الدكتور مناع، فكانت عشقه الأول وحبه، وعشقه الثاني كان مدينة جدة رغم حبه لجدته الحضرمية الأصل العمودية القبيلة، صاحبة بعض الحكم التي يرددها الدكتور مناع.
لقد عرفت شخصية الدكتور عبد الله مناع خلال رحلة صداقة حميمية لمدة أربعين عاما، وأعتقد أنني كنت أحد أقرب المقربين للدكتور عبد الله مناع، ومن حقي أن أسجل شهادة التاريخ عن الدكتور عبد الله مناع. إنه رجل وطني وفيٌ لوطنه وقيادتها، وجميع مواقفه طوال رحلة عمره تسجل له وطنيته؛ حتى في نقده العام والخاص جميعها كانت في الصالح العام ولمصلحة الوطن ، وأسجل شهادتي للتاريخ بأنه كان رجلا مسلما متعمقا في علوم دينه، وفي كتب السنة، ولا يفرق بين المذاهب، وليس متعصبا للعرق والدين والثقافة. كان ملتزما بالعادات والتقاليد، بل متشدد في الالتزام بها.
كان د. عبد الله مناع صاحب فكر سابق لعصره، فقبل ستين عاما كان يطالب بإعطاء مزيد من الحريات للمرأة، ولا يمانع في عمل المرأة بجانب الرجل، وكان من المؤيدين لإنشاء دور السينما وإنشاء المسارح.
كان فنانا وناقدا فنيا وموسيقيا؛ كتب عن الموسيقار الفنان محمد عبد الوهاب، وكان عاشقا لأم كلثوم ويحفظ أغانيها ويحتفظ بذاكرة قوية لكلماتها وتاريخ إنشادها.
كان أستاذ الجيل، كبير الصحفيين ورؤساء الصحف ومدراء التحرير، كما كان له صداقات كبيرة مع العديد من الوزراء ونوابهم وحظي باحترامهم وتقديرهم، كما حظي الدكتور عبد الله مناع باحترام وتقدير رجال الأعمال في المملكة بصفة عامة، وفي جدة ومكة المكرمة بصفة خاصة، ولم يفرق الدكتور عبد الله مناع بين أصدقائه؛ بصرف النظر عن انتمائهم العرقي والجغرافي، وكان أقرب أصدقائه من مكة المكرمة ومن الرياض والباحة وجازان وبقية مدن المملكة. لقد عاش المناع محتفظا بقامته الثقافية في كل نادٍ أدبي في المملكة، وفي كل محفل أدبي وثقافي، كما عاش المناع محتفظا بشخصيته التي أصبحت، كما يحلو للبعض تسميتها” الشخصية المناعية” حتى في لبسه الأنيق، وفي نظارته المتميزة المعلقة على رقبته، والبايب التاريخي؛ حيث يعتبر أحد أهم أعضاء البايب في المملكة، وإذا كان الدكتور عبد الله مناع أحد أبرز المفكرين والمثقفين في المملكة العربية السعودية، فإنه من الواجب علي أن أقدم شهادة حق بأن وراءه كانت تقف زوجة عظيمة بخلقها وأدبها وعلمها وثقافتها، وكان لها دور كبير في نجاح الدكتور عبد الله مناع في رحلة حياته العملية والثقافية ، وهي التي كانت تراجع كل عمل أدبي أو ثقافي للدكتور مناع، وتعطي رأيها، وتولت مسؤولية كبيرة
في غيابه وانشغاله، وهي مسؤولية تربية وتعليم أبنائه وبناته، الذين تخرجوا من أفضل المؤسسات التعليمية في داخل المملكة وخارجها. نعم كانت زوجته الأستاذة المربية القديرة هدى أبو زنادة ابنة العائلة الجداوية العريقة، والأستاذة والمديرة التربوية القديرة، فتحية تقدير واعتزازها، وأخيرا أسجل شكري وتقديري الكبير للنادي الأدبي بجدة ولرئيسه أخي العزيز الأستاذ الدكتور عبد الله السلمي على اللفتة الكريمة في تكريم د. عبد الله مناع القامة الثقافية الكبيرة، وهو تكريم كنا ننتظره منذ زمن طويل، والشكر لأخي وزميلي الدكتور فهد الشريف لتوليه هذه المهمة الصعبة في الكتابة عن هذه القامة الأدبية الثقافية الكبيرة.