هناك فئة من الناس يصرّون على صحة نظرتهم وسلامة رأيهم وصواب قولهم حتى لو عرفوا أنه غير سليم ولا يطابق الحقيقة لا من قريب ولا من بعيد، وعليهم ينطبق المثل العربي “عنز ولو طارت “، وهذا المثل يحكي قصة رجلين ذهبا للصيد فرأيا من بعيد شيئاً أسود فقال أحدهما ذلك غراب فيما قال الآخر بل هي عنز سوداء، وعند اقترابهما من السواد طار الغراب في السماء، فقال الأول ها هو غراب كما قلت وقد طار كما ترى، فقال الثاني وهو ينظر إليه في الجو بل هي عنز فقال الأول كيف ذلك فالعنز لا تطير، فرد على الفور ”عنز ولو طارت” مصراً على خطئه غير معترف بالحقيقة الماثلة أمامه والتي لا تقبل الشك. ويصمّم على موقفه الذي يناقض العقل ويخالف المنطق مع قناعاته الداخلية بخطأ رأيه وضعف حجّته لكنه يظل متمسكاً بقوله.
وأصحاب العنز لو جازت التسمية لا يعرفون أسلوب النقاش ولا أدب الحوار ولا فن الاعتذار ويظلّ الواحد منهم متمسكاً برأيه، فلو قال بأنه رأى الشمس تشرق من المغرب لن يقبل الاعتراف أمام الآخرين بعكس ذلك، وإنما يحاول اختلاق أي كلام هلامي لإثبات صحة روايته بكل مكابرة وعناداً على أن موقفه سليم وكلامه صحيح، وهؤلاء في الواقع متعبون جداً لمن تفرض عليهم طبيعة العمل أو المناسبات وحتى الصدف الالتقاء بهم والحديث معهم لأنهم يثيرون الاشمئزاز بالإصرار على الخطأ الواضح ، منطلق الواحد منهم بأن قولي هو الأصح و فكري هو الأرجح.
ولو كانت مسائل الخلاف تتعلق بأمور استنتاجية معينة في مجالات محددة لربما وجدنا لهم الأعذار، لكن لا نجد له أي مبرر إذا كان النقاش يتعلق بالبديهيات والموضوعات التي لا تقبل إلا إجابة واحدة إما أبيض أو أسود.
والمكابرة تلازم بعض النفوس الضعيفة التي لم تتشبع بالعلم كما يجب، ولها أيضاً دوافعها النفسية والتربوية والاجتماعية لإحساس أولئك الأشخاص بأن التراجع يقلل من قيمتهم ويضعف شخصيتهم، ويشعرون بالانتصار للذات بالعناد والمكابرة والإصرار على الموقف الخاطئ معتقدين بأن ذلك يمثل عزة النفس ولم يعلموا بأنهم ممن تأخذهم العزة بالإثم، فليس هناك خطأ أكبر من عدم الاعتراف بالخطأ -كما قيل- ولا شك أن العودة للحقيقة عندما تتضح الدلالات أمر مطلوب ومن الأهمية التراجع والاعتراف بالواقع لأن التصحيح يعد مسلكاً قويماً ومظهراً صحيحاً و مطلباً جيداً و شجاعة أدبية تدل على تقدير الحق واحترام الآخرين و الرجوع إلى الصواب مؤشر على اتزان العقل و ثبات السلوك.