تتميز المملكة بقدراتها المالية الهائلة بقيادة حكيمة وقوة «حزم وعزم» رؤيتها 2030، على تجاوز الصدمات الاقتصادية والمُفاجئة بسُرعة، كصدمة وباء كورونا الجديد، وانهيار نماذج اقتصادية وسياسية بسببها، ليخيب ظن العولمة بصيغتها الحالية، واستشراف تفكك الاتحاد الأوروبي، وانتقال الصدارة الأمريكية وحتى الصين وروسيا، وغيرهم كثير من الدول المُنتجة للنفط، التي تنبأت أغلب النظريات السياسية والاقتصادية لها بمستقبل مُظلم خاصة في صناعة النفط ودور الدول المُهمة فيها في صياغة مستقبل العالم بعد «كوفيد-19»، ليبزغ النور للقوة الجيوسياسية السعودية،
فلا يقتصر الأمر فقط على الاحتياطات المالية، بل يشمل كذلك القدرة على الاقتراض، وعودتها لدور الدولة القادرة، وسط مخاض فعلي من اضطراب عالمي وفوضوي لعالم ما بعد زمن الكورونا الذي استقبله العالم وافداً ثقيل الوطأة، وهو أكثر انقساماً من دون حوكمة، ومن دون قيادات وحُكماء، افتقد الرجال العظام في مواجهة اللحظات التاريخية حتى اعتبرها العالم عام «مذبحة النفط»، ليخرج منها رابحاً واحداً بشكل أقوى على الصعيدَين: الاقتصادي والسياسي، وهو المملكة العربية السعودية وقدرتها على إدارة الأزمة الجائحية مع انخفاض الطلب النفطي، إثر حالة الحجر المفروضة على أكثر من 4 مليارات من البشر، لدرجة قيام البائعين في أميركا بدفع مبالغ للمُشترين للتخفيف من فائض المعروض في بلد يحتاج 80 دولاراً للبرميل، من أجل توازنه المالي، لتُسفر الأزمة عن فقدان 220 ألف عامل في قطاع النفط الأمريكي لوظائفهم.
لكن الأمر غير مع السعودية التي تمتلك ميزات عدة في قطاع الطاقة الدولي، بعائداتها الكبيرة من الخام، وقدرتها من الاستحواذ على حصة أكبر في سوق النفط العالمي بمجرد استقرار الوضع، وفق جيسون بوردوف، مؤسس مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا، بل تتمتع بميزة جيدة مُقارنة بمُعظم الاقتصادات الأخرى، إذ إن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي منخفضة نسبياً، 24% من نهاية 2019، لتستطيع بقوة وبلا خوف أن تقترض ما يصل إلى 58 مليار دولار في 2020، بل ويُمكنها سحب أكثر من 32 مليار دولار من احتياطاتها، حيث يحتفظ المركزي السعودي بـ474 مليار دولار في احتياطات النقد الأجنبي، ومع هذه السحوبات تظل الرياض فوق مستوى 300 مليار دولار، التي تمثل الحد الأدنى للدفاع عن «الريال» المرتبط بالدولار.
وقد يستغرق العودة إلى مستويات إنتاج النفط المعتادة وقتاً أطول، مثل قطاع النفط الصخري الأمريكي الذي قد يستغرق أعواماً في ظل إلغاء الكثير من المشاريع الاستثمارية الجديدة، وتراجع اهتمام المستثمرين بالصناعة، مما يجعل الاستفادة الكبرى لدول الخليج والسعودية خاصة لما لها من قدرات عززت مكانتها الجيوسياسية مما يجعلها قائدة تحالف «أوبك» فلا خيار حقيقياً في نهاية المطاف «سوى الاتصال بالرياض»، وكبح جماح موسكو في حرب الأسعار التي اشتعلت مؤخراً، مما يُثبت أن روسيا تعتمد على السعودية وليس العكس، بل وأن الوباء سينتهي بتعزيز الموقع والمكانة الجيوسياسية للمملكة، وتقوية دورها في أسواق الطاقة العالمية.
تبقى في النهاية: مراقبة الصراعات الجيوسياسية نتيجة عدم اليقين، أفضل معيار لقياس التوازنات بين القوى الكبرى والفاعلة على المسرح الدولي، ليبرز لنا دور جديد من أدوار الزمن حضاريا وسياسيا وبيئيا واقتصاديا، وإعادة تشكيل النظام العالمي بموازين المملكة العربية السعودية، وانبثاق رؤيته الأكثر إنسانية.