اجتماعية مقالات الكتاب

قصتي مع كورونا

شاءت الأقدار أن أكون شاهداً على عصر “كورونا” من داخل أشد الدول الأوروبية تضرُّراً بالفيروس (إيطاليا)؛ ومن بؤرة البؤرة (لومبارديا).. تجربة لا أحد يرغب فيها، ولكن إذا فُرضت عليك، وحاصرتك من جميع المنافذ فأين المفر؟

في 31 يناير، تم تأكيد انتشار جائحة فيروس “كورونا” في أنحاء إيطاليا، لتكون الحبّة التي فرّطت المسبحة! وتتسارع الأحداث بعدها تباعاً.. حالة وفاة، إعلان مناطق الشمال حمراء، شركات الطيران تُعلِّق الرحلات من وإلى إيطاليا، تحجيم الحركة، حالات وفاة.. وفاة حالات، صمت، إعلان المجال الإيطالي كاملاً منطقة مُغلقة، الجامعات والمدارس والمكتبات تُوصِّد أبوابها، النوادي والفعاليات الثقافية تلغى، يتبعها الكالتشيو، الجارة فرنسا تغلق الحدود، طائرة خاصة تقل النجم رونالدو وأسرته إلى جزيرة ماديرا البرتغالية، إصابات هُنا وهُناك، أعداد الموتى في ارتفاع، وأقدارهم بمقدارهم! المُصابون يُحملون إلى المستشفيات مجموعات تلو الأخرى، أزمة في الأسِرّة وأجهزة التنفس تلوح في الأفق، رجال الشرطة ينتشرون ويفرضون الحجر بالقوة..بقوة القانون، تصلني رسالة SMS من المُقاطعة بتأجيل موعد إكمال إجراءات الإقامة إلى منتصف أبريل، أصوات عربات الإسعاف بديلاً لأغنية (Bella Ciao)، الشوارع تخلو وتخون، الخوف ينتشر، وسائط التواصُل الاجتماعي تشتعل، نشرات التحذير من الخُروج تسبق الشروع فيه، عربات الجيش الضخمة غير المألوفة ذات الإطارات العريضة القاسية تجوب الشوارع الحزينة التي نوّمت غصباً، وتدوس على الرخام الفاخر، مُتّخذةً من المُتنزهات والساحات مآرب لها.. ذاكرة الإيطاليين تتفقّد موسيليني، .. طوابير الجُثث تطول وتطول.. التوابيت ..

هذا الفيروس سيحولك لمجرد رقم، في شاشة الأرقام التي ترتفع وتنخفض كالبورصة كل يوم، ستُضاف إلى القائمة دُون أدنى أسف، سيمنع أقاربك من تشييع جثمانك.. يعود بقوة.. الطيور تُغرد وهي الأحق بأن تُحلق!، العجائز على الشرفات بلا مساحيق.
للمرة الأولى أنزل تطبيق(zoom) لأتابع بعض المحاضرات عن بُعد ويكأنني كنت رهيبا عن قُرب!، أتصفح تويتر أجد رئيس الوزراء جوسيبي كونتي متألقًا واثقًا ويُظهر قوة حكومته ويُزيل ما علق من غبار على عظمة إيطاليا وشعبها، في خضم ذلك يموت أحد حراسه متأثراً بالفايروس.. يكفكف دمعته ويواصل مهمته.. دي مايو وزير الخارجية الشاب ذو الثلاثين عاما، يبدو كمراسل حربي ماهذه الهِمة والحيوية يا فتى!، وزيرة الداخلية لوتشيانا لا تبدو جميلة ولكنها متماسكة وجذابة.. أعلام إيطاليا ترفرف فوق أسقف المنازل وعلى الأبواب والحدائق، إنهم يتبادلون التضامن والمسؤولية أليس كذلك؟!

أسبوعان إلا قليلاً في الحجر الصحي.. يبدأ الملل يفرض وجوده، يبدأ الإيطاليون في الغناء شيئاً فشيئاً، هنالك من يلعب بآلة الساكسفون، وآخر يطرق على أصابع البيانو (Piano Piano)..قنوات محلية إيطالية تبث المباراة النهائية لكأس العالم 2006 لرفع معنويات المواطنين.. هل تتذكر نطحة زيدان لماتيرازي؟! إذن تتذكر فرحة ليبي وبوفون وبيرلو وكانافارو.. بعد ركلات الترجيح! أنت الآن تفرح، هذا المطوب منك يا عزيزي في هذه الفترة..!

تصلني رسالة بتأجيل الموعد مرة أخرى إلى نهاية يونيو، استشيط غضباً، ومن ثم أهدأ.. جارتنا الشقراء التي أطل عليها كل يوم، ترتدي فستاناً أحمر، وحين تقع أشعة الشمس عليها تأخذك إلى عوالم هوليوود أو إحدى حفلات الأوسكار.. نباح جرو صغير يُفيقني من أوهامي، الرجل العصبي صاحب الحانة الذي يسكر ليلاً ويثرثر نهاراً قرّر أن يعد البيتزا والباستا ويسهر تحت ضوء الشموع وبجوارها.. رائحة القهوة الذكية تفوح في الشوارع.. يدخنون ولا يحزنون، تقف امرأتان، تطمئنان على جارتهن (ماريا) التي على وشك أن تضع مولودها.. “يا ترى هل ولادة طبيعية أم قيصرية؟!” طرحت هذا السؤال على نفسي وأنا أراقبهما، لا تتعجّب أنه الفراغ وما يريد! طفل يولد وعشرة يموتون.. من بين كل هذا الحطام تنبت زهرة وتتفتق بذرة.. وتبقى إيطاليا رقعة غالية..!

الإيطاليون طباعهم أقرب إلى المشارقة وطباع أهلنا في جنوب الكرة الأرضية، هذا ما أجده تفسيراً أو أحد أسباب انتشار الفيروس بهذا التوسع.. هم اجتماعيون، يحبون الموائد الجماعية والسهرات، لديهم ارتباط بالأسرة والعائلة، يتمسّكون بروابط قوية وعاطفية مع آبائهم وأقاربهم الآخرين، حميمية، بهجة، إحساس بالجمال والفنون، إقبال على الحياة حتى الرمق الأخير، إنهم ألطف الشعوب الأوروبية بحسب تقديري..!!

هذه الأزمة فجعتهم في أسلوب حياتهم قبل حياتهم، يأتي الصباح مرة أخرى.. يقفون في المحالات التجارية بانتظامٍ، يلتزمون بالمسافة مترين.. كلما زادت المَحَبّة كلما بعدت المسافة، (Social Distancing)، يضعون الكمّامات بإحكام، يوبخونك إذا لم تكن تضعها، منهم بحِنِيّة جدة حكيمة، ومنهم بحذر خائفٍ.. أسعار المواد الاستهلاكية تشهد انخفاضاً، الأرفف مليئة، الخير فائض، يضعون المواد التموينية للمحتاج أو من تقطّعت به الأسباب..
mmad456@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *