اجتماعية مقالات الكتاب

الصحة: مسؤولية فردية أم محددات اجتماعية؟

هل تُعد الصحة نتاجاً لمحدداتٍ اجتماعية تؤثر سلبا وايجابا في تبني أنماط حياةٍ مختلفة ، أم أنها محصلة لخيارات يتخذها الإنسان وفقا لقراره الفردي المجرد، بمنأى عن أي مؤثرات خارجية ؟

ظل هذا السؤال – وما يزال- محورا لنقاش طويل في أروقة الصحة العامة ، وأفرز وجهات نظر متعددة ، تنطلق في مجملها من أبعاد ثقافية وحضارية مختلفة، وترتبط – في أحيان كثيرة – بمواقف ايديولوجية متباينة.

وإذا نظرنا إلى الصحة كنتيجة محضة لقرارات الفرد المبنية على حريته الشخصية ، فإن ذلك يقودنا إلى تبني ثقافة إلقاء اللوم على الضحية ، و تحميل المريض مسؤولية مرضه وتردي صحته بشكل كامل . وعلى المقلب الأخر ، فمقاربة السلوكيات الصحية باعتبارها استجابة طبيعية للتأثيرات البيئية ، والمحددات الاجتماعية ، سيعزز نظرية « التدخل الجماعي» ، وسينقل تركيز التشريعات والسياسة الصحية نحو العوامل البيئية، والمحددات الاجتماعية المحيطة بالأفراد ، باعتبارها مكونا وحيدا لسلوكياتهم وخياراتهم الصحية ، دون النظر لدور الحرية الشخصية في تبني السلوكيات الصحية المتمايزة.

ولعل النظرة المحايدة التي تتبنى النهج المتوازن ، يمكنها أن تتاخم الأمر شموليا، على الوجه الذي يساعد في ادراك حقيقة أن عناصر الاختيار الحر ، والقرار الشخصي ، تتفاعل مع المحددات الاجتماعية والتأثيرات البيئية، لتشكيل السلوكيات الصحية المتنوعة ، وهذا ما لاحظه الباحثان كتلر و وقلايزر ، في دراستهم المهمة ، والتي بينت أنه من المستبعد أن تفسر الخصائص الفردية وحدها السلوكيات الصحية بطيفها الواسع ، حيث وجد هذان الباحثان، أن ارتباط السلوكيات المحفوفة بالمخاطر بالخصائص الفردية المجردة يبدو منخفضًا جدًا ، فمثلا : من غير المرجح أن تكون السمنة ترتبط بعلاقة سببية بالتدخين ؛ كما أن الإقبال على الخدمات الوقائية الطبية مثل اللقاحات أو الفحوصات الصحية المبكرة ، لا يرتبط بوضوح بسلوكيات فردية سيئة مثل التدخين أو وجود مؤشر كتلة جسم مرتفع. ومن بين الأدلة التجريبية ، التي طرحها كتلر وقلايزر، لتعزيز نتائج دراستهما ، التغيير في تكنولوجيا إنتاج الأغذية ، وما صاحب ذلك من انتاج الأطعمة المصنعة المليئة بالسكر المضاف ، والأملاح ، والزيوت المهدرجة ، وارتباط ذلك بارتفاع معدلات السمنة ، خاصةً لدى الأفراد والأسر الذين أصبح وقتهم المتاح للطبخ و إعداد وجبة الطعام محدودا ، وذلك يدعم – بوضوح – الفرضية القائلة بأن السلوكيات المتعلقة بالصحة يتم تحديدها بشكل أساسي من خلال التفاعلات بين الخصائص الفردية والتأثيرات البيئية والمحددات الاجتماعية.

وإذا كانت خيارات الأفراد في اتباع أنماط الحياة المختلفة هي نتيجة للتأثيرات البيئية التي تتفاعل مع الخصائص الفردية، فمن المحتمل أن يعكس التدرج الاجتماعي والاقتصادي الاختلافات بين الأفراد في درجة تحكمهم في تأثير المحددات الاجتماعية و البيئات المحيطة على سلوكياتهم الصحية ، وقرارتهم في تبني أنماط حياة مختلفة ؛ حيث تؤكد سلسلة من الأبحاث التي أجريت في أنحاء متفرقة من العالم منذ سبعينيات القرن العشرين حول العلاقة بين الطبقة الاجتماعية الاقتصادية من جهة والصحة من جهة أخرى، على أهمية تعزيز قدرة الأفراد في التحكم والسيطرة على تأثير محيطهم الاجتماعي كمحدد مهم للصحة ؛ فعلى سبيل المثال، تشير البراهين العلمية بوضوح إلى أن الإجهاد في أماكن العمل ، يرتبط سببيًا بأنماط الحياة غير الصحية ، ومتلازمة التمثيل الغذائي، وأمراض القلب والشرايين التاجية. ومع ذلك ، فإن اتجاه هذه العلاقة السببية لا يزال غير مؤكد حتى الآن ، فلا يعرف على نحوٍ دقيق فيما إذا كان الأفراد المستعدون وراثيا للتحكم بشكل أفضل في تأثير محيطهم الاجتماعي على سلوكياتهم الصحية قادرين على الوصول إلى المناصب الاجتماعية المهمة، والمكانة الاقتصادية الممتازة، والحالة الصحية الأفضل عبر اختيار أنماط حياة صحية ، أم أن المكانة الاجتماعية والاقتصادية المتميزة تمكن مالكيها، بشكل منعزل عن أي عوامل أخرى ، بالتحكم بأنماط حياتهم وسلوكياتهم الصحية.

وللتأكيد على دور التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية في تشكيل التغيرات الهائلة الأخيرة في أنماط واتجاهات صحة السكان على المستوى العالمي ، أنشأت منظمة الصحة العالمية لجنة للمحددات الاجتماعية للصحة في عام ٢٠٠٥ م ، حيث يحاول الإطار النظري للجنة بناء نموذج عام لتأثيرات مجموعتين رئيسيتين من المحددات هما : المحددات الهيكلية ، وتشمل السياقات الاجتماعية والاقتصادية بهياكلها المختلفة ؛ والمحددات الوسيطة ، والتي تؤثر بدورها في المحددات الهيكلية وعلاقتها بالصحة ، وتشمل تحديدا العوامل البيولوجية والسلوكية ، وظروف المعيشة والعمل ، والعوامل النفسية والاجتماعية ومكونات النظام الصحي.

ولعله من المناسب، أن يُنظر في تشكيل كيان موازٍ لهذه اللجنة العالمية في النظام الصحي السعودي، يضطلع بدراسة تأثير هذه المحددات على الصحة العامة في بلادنا ، على نحو يمكن من تطوير أدلة علمية للمارسة المهنية في مجال تعزيز الصحة ، والوقاية من الأمراض ، تأخذ بعين الاعتبار الدور الذي يلعبه تفاعل الفرد مع محيطه العام ، ومحددات بيئته الاجتماعية ، ومكوناتها الحضارية ، في تشكيل ملامح الوضع الصحي الراهن وتداعياته.
drhalmalki@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *