نكرر كثيرًا مصطلح الاحتراف في الوسط الرياضي، ونستخدمه في التحليل والانتقاد وتبرير الإخفاقات، حتى بات كلمة حاضرة في كل نقاش، وغائبة في الممارسة اليومية. فبين ما نردده وما نطبقه مسافة واسعة، جعلت من الاحتراف شعارًا أكثر منه ثقافة راسخة، ومن مفهومٍ نظري لا يلامس الواقع كما ينبغي.
الاحتراف الحقيقي لا يبدأ من توقيع العقد، ولا ينتهي عند صافرة الحكم، بل هو سلوك يومي يسبق الموهبة، ويتقدم على الشهرة. هو التزام بالوقت، وانضباط في التدريب، واحترام للقميص الذي يُرتدى، وإدراك أن تمثيل النادي أو المنتخب مسؤولية أخلاقية، قبل أن تكون امتيازًا ماليًا. كثير من مظاهر الخلل التي نراها في ملاعبنا لا تعود لقلة الإمكانات، بل لضعف فهم هذا المعنى البسيط والعميق في آن واحد.
حين ننظر إلى بعض التجارب الناجحة، نجد أن الاحتراف يبدأ من الإدارة قبل اللاعب، فالإدارة المحترفة تضع الأنظمة وتلتزم بها، وتفصل بين العاطفة والقرار، وتدرك أن الاستقرار الفني والإداري جزء أصيل من النجاح. أما حين تغيب الرؤية ويُدار النادي بردود الأفعال، فإن الحديث عن الاحتراف يصبح مجرد ترف لغوي لا يغيّر شيئًا على أرض الواقع.
الإعلام الرياضي- بدوره- شريك في ترسيخ أو تشويه مفهوم الاحتراف. فالإعلام الذي يبرر الخطأ، ويضخم الفرد، ويصنع النجومية قبل اكتمال النضج، يسهم دون قصد في هدم قيم الالتزام والانضباط. بينما الإعلام الواعي هو الذي ينتقد بسقف مهني، ويكافئ السلوك قبل النتيجة، ويُعيد توجيه البوصلة نحو العمل لا الضجيج،
ولا يمكن إغفال دور الجماهير، فهي عنصر مؤثر في البيئة الرياضية، إيجابًا وسلبًا. فالجمهور حين يصفق للاعب المنضبط حتى في الخسارة، ويرفض الفوضى مهما كان اسم صاحبها، يشارك في صناعة الاحتراف. أما حين تُغلب العاطفة على القيم، وتُبرر التجاوزات باسم الانتماء، فإن الرسالة التي تصل للاعب واضحة: الأداء وحده يكفي، والسلوك قابل للتجاوز،
الاحتراف أيضًا مسؤولية شخصية، تتعلق بوعي اللاعب بذاته وبمستقبله. اللاعب المحترف يعرف أن مسيرته قصيرة، وأن ما يبنيه من سمعة وانضباط سيبقى أطول من أي بطولة يحققها. يدرك أن جسده رأس ماله، وأن سلوكه خارج الملعب لا يقل أهمية عما يقدمه داخله.
في النهاية، سيبقى الاحتراف مفهومًا منقوصًا ما لم يتحول إلى ممارسة يومية تشمل الإدارة، واللاعب، والإعلام، والجمهور. فالاحتراف لا يُمنح بعقد، ولا يُفرض بنظام، بل يُبنى بثقافة، ويُثبت بسلوك، ويُقاس بالاستمرارية. وحين نبدأ في ممارسته بصدق، سنكتشف أن كثيرًا مما نبحث عنه في النتائج، كان غائبًا في التفاصيل.
(الاحتراف.. مفهوم نردده ولا نمارسه)
