الذاكرة أعجوبة في حفظها، وفي غيابها، وفي حضورها؛ وقد سألني سائل قبل سنة: ما هو البيت الذي يرد على بالك إذا طلبته منك؛ فقلت له: البيت الشارد عن الدواوين! قال: ما هو؟ قلت:
يُقضى على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن
وعندما اختار الله زوجتي إلى جواره، تذكرت أننا في هذا الدرب قد شيعنا الآباء والأمهات والأجداد والعشرات من الأقارب- رحمهم الله. ولذلك لم أملك سوى أن أقول مع الشاعر:
قد كنت تُفجع بالأحباب بعدهمُ
وموتُ نفسِك لا أبا لك افجعُ
لقد كانت هوايتها في الطب البديل، فتركت في مكتبتها عشرات الكتب في هذا المجال. ولما أزّ ضرسي بالوجع بعد منتصف ذات ليلة، ووجع الضرس عذاب، كانت مستعدة بمحلول القرنفل جاهزًا على الرف فقضى على الوجع. ونمت هانئًا. وإلا فأين أجد عطارًا في تلك الساعة؟
في شؤون بيتها وزوجها وأخلاقيات التعامل مع الناس كانت مثلًا عاليًا. كانت تحتفي بطعامي وتقرأ إشاراتي قبل أن أعبّر عنها. ولما ذكرت ذلك لأحد الأقارب، قال: من تحتفي بزوجها فهي بمنزلة الصائم القائم عند الله. وقد جاءتها ذات مرة من كانت المودة مفقودة بينهما طالبة خدمة. فقامت بخدمتها أحسن قيام، كما لو كانت أعز الناس عليها. وكانت ترفض مفاهيم التربية الحديثة، وترى أن التربية لكل عمر ما يناسبه. بالنظرة الغاضبة أو برفع الصوت أو حتى بغيره. وقد وافق شن طبقة.
على أن خصلة كانت أعجب من كل ذلك. كانت في منزلها لا تمد يدها إلى الطعام على وفرته إلا إذا تأكدت أن كل الطاعمين قد نالوا نصيبهم. وتقول للأحفاد: الإسراف حرام، أكملوا صحونكم، فلو بقيت حبة رز لطاردتكم يوم القيامة. ولقد كانت أبعد الناس عن الأنانية. كيف تعلمت هذا الخلق؟ لعله اتباع لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
وخلال أيام العزاء وردت إليّ رسالة صديق من أهل العلم، كان قد فقد زوجته، قال: إذا عاودتك الذكرى وزاد الاشتياق؛ فاقرأ ما تيسر من القرآن وهب ثوابه لها يكن اتصالًا بينك وبينها، يدخل على روحها النور والسرور، وعلى قلبك الأمان والرضا. هذه في ظني هي صيغة التواصل مع أهل البرزخ؛ نور لهم يفرحهم وسلوة لنا.
إننا نحاول استخلاص العبرة من حياة من مضوا قبلنا. والرضا بالمقسوم درجة عليا من الإيمان؛ لذلك فإننا نعتصم بما يقوله الصابرون: إنا لله وإنا إليه راجعون.
خلاصة
	