مقالات الكتاب

الصحن الذي تكثر عليه الملاعق

ليست كل الموائد تُغري، ولا كل الصحون تستحق أن نمدّ إليها أيدينا. هناك صحن يكثر عليه الزحام، تتسابق إليه الملاعق، وتعلو حوله الأصوات، لكنه – في الحقيقة – لا يُشبع أحدًا. يملأ العيون ضجيجًا، والقلوب فراغًا.
تعلمت أن أترك مثل ذلك الصحن وأمضي، حتى وإن نمتُ جائعًا. فـجوع الكرامة ألذّ من شبعٍ ملوثٍ بالمزاحمة، وأغلى من فتاتٍ يُرمى على طاولة لا تليق بي.
ليست العزّة في الامتلاك، بل في الانتقاء. ليست في التجمّع حول ما كَثُر، بل في الابتعاد عمّا فقد قيمته من كثرة الأيدي عليه. فالعاقل لا يقتات على الفتات، ولا يُزاحم على موائد لا تليق بحضوره.
وفي عالم يزدحم بالضجيج والأيدي المتسارعة، يصبح التفريق بين ما يستحق الالتفات إليه وما هو مجرد ضجة مهارة نادرة. فالذي يختار الابتعاد عن الصحن المكتظ لا يفرّ من الواقع، بل يختار أن يحافظ على كرامته ووقته، وأن يُغذي قلبه بما له قيمة حقًا. هناك رغبات تُوهمنا بالسعادة لكنها سرعان ما تتركنا فارغين، وموائد ممتلئة بالألوان والأصوات لكنها خاوية من الجوهر. الامتناع عن الزحام ليس حرمانًا، بل اكتشاف للسكينة واللذة التي تولد من اختيار ما يليق بنا، بعيدًا عن صخب العالم، وموائد لا تشبع إلا العيون لا القلوب.
“والصحن الذي تكثر عليه الملاعق أتركه وأنام جعان”…
سطر بسيط، لكنه بحر من المعاني.
يعلمنا أن نختار كرامتنا قبل رغباتنا، وأن نفضل النوم بجوعٍ عابر على الاستيقاظ بندم دائم .
أنا عمري ما حطيت عيني على حاجة أحد حتى حاجتي لما لقيت عليها زحمة تركتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *