مقالات الكتاب

مسودة التاريخ

كان أحدهم يعمل في بيع بذور القرع (الفصفص) وكان يأتي إلى سفارات أوروبا الشرقية وإلى سفارة كوبا أيام المعسكر الشرقي في إحدى العواصم العربية، ويتظاهر بأنه مثقف ويرغب في الحصول على تراث لينين وماركس وتيتو وكاسترو؛ فكان الدبلوماسيون يرحبون به ويعطونه كتيبات وملفات قدر ما يستطيع حملها من الأدبيات، التي تتحدث عن الاشتراكية والإمبريالية والبورجوازية والكمبرادورية. (سألت الأستاذ هلال الكثيري عن الكمبرادورية، فقال: هي كلمة برتغالية تعني المشتري، لكن الكلمة لها رنّة اشتراكية، تعني تحالف البورجوازية مع المال الأجنبي). ثم يعود صاحب الفصفص إلى محله فيستخدم الورق الصقيل الجميل في عمل أغلفة هرمية صغيرة، ويضع فيها الكمية المناسبة من الفصفص ويبيعها للزبائن.
ولما انتهت مدة السبعين سنة من عمر الشيوعية يروي الأستاذ داود الشريان، أن الرئيس المصري حسني مبارك، قال لليساريين المصريين ضاحكًا: راحت عليكم.. وثبت أن صاحب الفصفص كان أكثر وعيًا من اليساريين العرب.
أما كراتين الورق الصقيلة في السفارات والقنصليات فقد وجدت طريقها إلى صناديق قمامة البلدية. وهكذا انتهت طباعة عشرات الألوف من الكتب باللغات المختلفة، التي أصبحت مثل علب التونة غير الصالحة للاستهلاك الآدمي. وعلى هامش هذه التجارة والثقافة خسرت مصانع الورق ملايين الدولارات، التي كانت تربحها من استهلاك الورق. وقل مثل ذلك خسارة بيع الورق في ليبيا بعد توقف طباعة الكتاب الأخضر، الذي أصبح مسودة تاريخية من مسودات التاريخ.
ثم انتعشت تجارة الورق مع ارتفاع إقبال الرأي العام على شراء الصحف. وهنا نأتي إلى النكبة الورقية الثانية التي بدأت عام 2010م بعد ازدهار وسائل التواصل. فلقد أرسلتُ رسالة قبل خمسة أعوام إلى أحد مشرفي بيع الورق في إحدى الشركات عن كمية الاستهلاك السنوي الورقي فكتب إليّ أن إحدى الصحف المحلية بلغ استهلاكها للورق في وقت الذروة خمسة عشر ألف طن سنويًا، ثم هبطت إلى ألف طن سنويًا. وقال: إن سعر الطن كان 2500 ريال. وذلك يعني أن تلك الصحيفة كانت تدفع 37.500,000 ريال في السنة قيمة الورق.
وعندنا أكثر من عشر صحف يومية. وهناك صحف يومية أو أسبوعية ومجلات رياضية. فعلى هامش تحول بعض الصحف إلى رقمية وتدهور توزيع الصحف والمجلات عموما، فقد تسبب كل ذلك في هبوط مبيعات الورق إلى أقل من 10 بالمائة مما كان عليه قبل عشرين سنة. وتلك نكبة تجارية ورقية ثانية أكبر من سابقتها.
لكن في ذلك خير من حيث الاحتفاظ بمستوى كميات الأشجار في البلاد، التي كانت تصنع الورق مثل إندونيسيا وماليزيا وفنلندا.
يقول المثل الفرنسي: إن الصحافة أول مسودة للتاريخ، فهل انتهى عهد كتابة المسودات التاريخية.. وما هو البديل؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *