شهد العالم بالأمس موكبًا لا يشبه سواه؛ موكبًا من الألم والدموع، مسيرةً لنازحين يرحلون من ركام إلى ركام ، لا يحملون سوى ما تبقى من ذاكرة وحقّ في البقاء. رجال ونساء وأطفال عادوا إلى بيوتٍ لم تعد موجودة، إلى أحلامٍ دفنت تحت الأنقاض، يسيرون حفاةً وقد أثقلهم الجوع والتعب، بينما تتشبث أيديهم بمفاتيح منازل تحوّلت إلى غبار ورماد. تلك المفاتيح لم تعد تفتح أبوابًا؛ بل تفتح جراحًا وتعيد إلى القلوب نغزات الانتماء المفقود. رأيت بينهم من يحمل قدرًا صدئًا، أو وعاءً خاليًا جافا أو قطعة من خشب كانت ذات يوم بابًا، وآخرين يحملون أطفالهم أو آباءهم على الأكتاف. مشهد يقطّع القلب ويختصر المأساة الإنسانية في زمن يفاخر بتقدّمه، بينما يترك الإنسان بلا مأوى ولا كرامة. ومع ذلك، كان كثيرون منهم يرفعون أصابعهم بعلامة النصر، وكأنهم يقولون للعالم: إن العودة إلى الرماد أفضل من الغياب، وإن البقاء على تراب الوطن- ولو مدمّرًا- هو أسمى أشكال الصمود. المأساة لم تكن في الخراب وحده؛ بل في صمت العالم الذي اكتفى بالمشاهدة. الكاميرات سجّلت، والبيانات صدرت، والضمائر غابت. قيلت عبارات “القلق العميق” التي فقدت معناها، فيما مصانع السلاح تواصل إنتاج أدوات الموت. والمجرمون يتحدثون عن السلام، بينما يبنون مجدهم على جثث الأبرياء. مفارقة تكشف زيف الحضارة الحديثة التي وصلت إلى الفضاء، لكنها عجزت عن حماية الإنسان على الأرض. الهجرة من الركام إلى الركام، ليست فقط مأساة بشرية؛ بل مرآة قاسية لحال هذا الكوكب. إنها صرخة في وجه عالمٍ نسي إنسانيته، واحتفى بالقوة على حساب الرحمة. ومع ذلك تظل في هذه المسيرة لمحة أملٍ صغيرة.. امرأة تبتسم لطفلها رغم الجوع .رجل يضع مفتاحه في الهواء حيث كان بابه ذات يوم. طفل يزرع زهرة بجوار حفرة؛ لأنه يؤمن أن الحياة يمكن أن تولد من الموت. هؤلاء الذين يسيرون حفاة وشبه عراة، في طرقٍ من الغبار يحملون في وجوههم آخر ملامح الإنسانية. إنهم الشاهد الأخير على أن الإنسان؛ مهما تهشّم، يظل قادرًا على النهوض وأن في كل رمادٍ بذرة حياة تنتظر من يسقيها بالدمع والأمل . تلك المسيرة ليست مجرد رحلة بائسة بل شهادة على أن الروح البشرية رغم كل الخراب، لا تزال تقول للعالم: ما زلت هنا ولن أرحل.
الرحيل من ركام الي ركام
