مقالات الكتاب

امتياز

قبل ثلاثين سنة، بلغني أن باعة متجولين من الجنسية اليمنية بجدة كانوا يتمركزون عند أبواب أحد مساجد جدة الكبيرة؛ لبيع الفواكه والخضروات، عندما يخرج رواد المسجد من الصلاة. فما إن تقوم صلاة العصر أو المغرب، حتى يتوافد أولئك الباعة بعرباتهم، ويتموضعوا في أماكن مناسبة لترويج ما لديهم، ولكنهم لا يتوضؤون ولا يصلون مع الناس. ولما علم إمام المسجد بذلك أخذ يوجههم وينصحهم بضرورة الصلاة جماعة مع المسلمين. وكانوا يقولون له:”جزاك الله خيرًا”، ولكنهم لا يستجيبون للنصيحة. ومرت أشهر على هذا الحال. الإمام ينصح وهم يشكرونه دون تطبيق ما يأمرهم به. وواصل الإمام النصيحة وواصلوا هم العصيان.
ثم إن الإمام ذهب ذات يوم إلى جزار قريب من المسجد، وطلب منه لحمًا مقطعًا بطريقة”الدقة” وهي أكلة معروفة لدى أهل تهامة في اليمن- أي الحديدة وما حولها- وباع الجزار اللحم المطلوب متعجبًا؛ إذ لم يدر بخلده أن هذا الإمام- صاحب الصوت الشجي والترتيل الجميل- هو من بلاده، بل ومن المحافظة التهامية تحديدًا!
بعد انتشار الخبر في الحي، جاء الإمام إلى المسجد، فاستوقفه أحد الباعة وسأله:”بالله عليك أنت من تهامة؟” فتكلم الإمام باللهجة التي يتكلمون بها، فزاد البائع:”من أين بالضبط؟” فذكر له الإمام القرية التي جاء منها، وهو صبي، ولم يتركه بائع آخر؛ إذ سأله:” ومن أين جئت بهذه التلاوة الحلوة؟ فأجاب الإمام:” درست في الحرم المكي، دعوني ألحق الصلاة”، ودخل إلى المسجد. وعلى إثر هذا الحوار، سارع الباعة إلى حمامات المسجد للوضوء والالتحاق بالصلاة.
لا أرى في ذلك أي غضاضة؛ فالصلاة لله، وأولئك الباعة- في قرارة أنفسهم- يشعرون بتأنيب الضمير أنهم لا يصلون مع الناس، وحتى إذا دخلوا إلى المسجد للصلاة، فإنما يكون دخولهم بعد خروج معظم الزبائن. ولكن عندما علموا أن الإمام العزيز من بلدياتهم، أو قل من جهتهم، تركوا المعاذير، وصلوا مع الجماعة.
الأسبوع الماضي حدثت قصة ذكرتني بأولئك الباعة المتجولين. فقد علمت الجالية السودانية في المملكة أن مواطنة سودانية مغتربة، تعمل بالتمريض في أحد المستشفيات الشمالية، وقعت في خطأ طبي، ونتيجة لذلك تقرر إيقاع غرامة عليها مقدارها ثمانمائة ألف ريال، أو السجن. هنا تنادى المغتربون السودانيون، وخلال 24 ساعة جمعوا المبلغ وأنقذوها من السجن.
من الطبيعي أن يتعاضد كل قوم، أو أبناء الوطن الواحد فيما ينوبهم من مشكلات أو قضايا. ليست عنصرية وإنما امتياز يمتازون به عن غيرهم. إن كمال المروءة يقتضي الوقوف مع المنكسر أو الملهوف حتى تنفرج كربته. قال الشاعر المهجري إيلياء أبو ماضي:
إني إذا نزل البلاء بصاحبي دافعت عنه بناجذي وبمخلبي
وشددت ساعده الضعيف بساعدي وسترت منكبه العريّ بمنكبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *