مقالات الكتاب

التعليم وجرأة التحول

دائمًا ما أجد نفسي مثقلًا بالتفكير في عجز العالم عن إعادة صياغة فلسفة التعليم؛ بما يواكب العصر واحتياجاته. نقضي سنوات طويلة في المراحل الدراسية، نحفظ معلومات بغرض اجتياز الامتحانات، لكنها بلا قيمة تُذكر في حياتنا العملية؛ فننساها بمجرد دخول سوق العمل، فما جدوى أن نحفظ جدول الضرب، ولا نعرف كيف ننشئ شركة، أو نعرف عواصم العالم دون أن نتعلم كيف نحل مشكلات حياتنا اليومية، أو نبدع حلولًا جديدة؟ نطلع دوماً من وزارة التعليم -كما عودتنا- على دعم صناعة رواد أعمال ومبتكرين لنستفيد من موظفين مبدعين في المستقبل وليس مجرد باحثين عن وظيفة لم يتجهوا للتفكير الحر والإبداع. وفي مجلس أحدية الأستاذ محمد بكر سندي، الذي يجتمع فيه نخبة من الأكاديميين والإعلاميين والمثقفين أثار الدكتور رشاد محمد حسين مؤخرًا قضية جدوى نظم التعليم الحالية، ومدى قدرتها على تضييق الفجوة بين ما نتعلمه في المدارس والجامعات، وما يتطلبه الواقع المتغير. لقد شهد العالم في العقود الأخيرة تحولات كبرى في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي، وكان وراء هذه التحولات مجموعة من الرواد الذين لم يكملوا تعليمهم الجامعي أو المدرسي، ومع ذلك صنعوا إنجازات غيرت وجه البشرية. هذه الحقيقة تؤكد أنه لا جدوى من المناهج التعليمية التقليدية، التي تستغرق سنوات طويلة من عمر الطالب دون أن تصنع منه رائدًا أو مبتكرًا؛ وقد سعدنا بالتحول من التعليم التقليدي إلى الاهتمام بالمبدعين والمبتكرين في ظل اعتماد 5 مدارس للموهوبين بمناطق المملكة، ليبتعد التعليم من التركيز على الحفظ والتلقين للتفكير والابتكار، والبعد عن تقييد العقول بمسارات جامدة، لأن الإبداع يحتاج إلى حرية وجرأة وخيال. الأمثلة العالمية كثيرة وتكاد تكون قاطعة الدلالة؛ بيل غيتس ترك جامعة هارفارد ليؤسس مايكروسوفت، ويصبح أحد أثرى رجال العالم، وستيف جوبز لم يكمل تعليمه الجامعي لكنه أحدث ثورة في صناعة الهواتف والحواسيب عبر شركة آبل، ومارك زوكربيرغ غادر الجامعة ليؤسس فيسبوك- أكبر شبكة اجتماعية عرفها التاريخ. لاري إليسون ومايكل ديل وريتشارد برانسون جميعهم اختاروا طريق التجربة العملية بدل التعليم الرسمي، وأسسوا شركات بمليارات الدولارات؛ وحتى يان كوم .. القادم من الفقر ترك الدراسة؛ ليبتكر واتساب بينما أحدث ترافيس كالانيك انقلابًا في قطاع النقل عبر تأسيس أوبر. هذه النماذج برهنت على أن المنهج الدراسي لم يكن يومًا سر نجاحهم؛ بل كان العائق الذي تجاوزوه ليطلقوا طاقاتهم. إن جوهر القضية لا يكمن في رفض التعليم تمامًا؛ بل في الاعتراف بأنه يحتاج للتطوير المستمر لمواكبة عصر السرعة والتغيير. بعض الطلاب يقضون سنوات طويلة خلف الكتب ليخرجوا في النهاية موظفين مهيئين لأدوار نمطية، بينما يفتقرون إلى روح الريادة والقدرة على المخاطرة، لذلك يكون التغيير مهماً. فمن أراد صناعة جيل من الرواد عليه أن يمنح الشباب حرية التفكير والنقد والتجريب، ويشجعهم على الابتكار بدلًا من حبسهم في قاعات تقليدية؛ فالمستقبل لا يحتاج إلى شهادات تعلق على الجدران؛ بقدر ما يحتاج إلى عقول قادرة على كسر القيود وصناعة واقع جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *