في كلمات بليغة تحمل الكثير من الدلالات السامية، يصف علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر الدكتور يحيي بن محمود بن جنيد بقوله ” إن الرجل يعيش عيشة غريبة, فيحيا عزلة وانفراداً وبعداً عن ضوء الحياة العامة, يذكر بالصوفي المنعزل في محرابه, أو الفيلسوف العاكف في انفراده على دراساته، ولكنه مع ذلك، يعيش لمجتمعه، ويحيا حياة كلها جد ودأب ونشاط في البحث, واتجاه للاستزادة من العلم, وإفادة متجدِّدة متواصلة مع غزارة إنتاج نافع, ومواصلة توجيه طلاب، أدرك فيهم من الرغبة، والحرص على التوجه لنيل المعرفة, ما حبّبهم إليه، وحبّبه إليهم، حتى أثمرت تلك الحياة الجادة المنعزلة عما يحيط بها مما لا يتصل بما ينفع ويفيد أطيب الثمار”
وفي الكتاب الذي أصدرته مكتبة الملك فهد الوطنية بعنوان ” يحيى محمود بن جنيد: جليس الكتب، وأنيس المكتبات،”والذي ضم بين دفتيه نتاجه الفكري المنشور، وماكتب عنه من بحوث ودراسات، تصدر صفحته الأولى اهداء مؤلفه الدكتور أمين سليمان سيدو إلى (محبي يحي العالم المدرسة الرمز الإنسان) ، واستهله رئيس مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية الدكتور محمد بن سعد السالم، قائلا: «الكتاب يتناول ترجمة لحياة علم من أعلام الثقافة في المملكة، بل وفي العالم العربي أجمع، علم تجمعت فيه كل صفات العلمية، من الشهرة، والإبداع، والتميز وكذلك العلم الغزير، والأدب الجمّ، والتواضع والخلق القويم، والسلوك المستقيم، فعرف بالتزام علمي دقيق، حتى غدا يشار إليه بالبنان)، وفي مقدمته لكتابه، يقول عنه صديقة وتلميذه الدكتور أمين سليمان سيدو : « إنه علم بارز من أعلام المكتبات والمعلومات في العالم العربي، وإذا ما عُدّ خمسة من أعلام المكتبات والمعلومات والتوثيق في العالم العربي، كان يحيى محمود بن جنيد واحداً منهم بلا منازع، لأنه صاحب بصمة علمية مميزة في فضاء الإنتاج الفكري المنشور في هذا المجال، وصاحب رؤية واضحة في توجيه قافلة الثقافة في هذه البلاد، وفق مسارها الصحيح، الذي لا ينفصم عن ثوابت الفكر والمعتقد، اللذين جبلت عليهما هذه الأمة منذ الرسالة المحمدية الخالدة، وكرَّس كل وقته واهتمامه وعلمه، لتطوير المكتبات، والنهوض برسالتها الثقافية والعلمية والتعليمية في المملكة، حتى أصبح أسلوبه الإداري المقرون بالعمل الجاد في المكتبات، يقتدى به. وهو صاحب مدرسة فكرية توفيقية تجمع بين التراث بأصالته والمعاصرة بجمالياتها في منهجه الفلسفي”
ولد الأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد عام 1366هـ في مكة المكرمة، وبها بدأ تعليمه الأولي، وانتقل بعدها إلى الطائف، ليكمل بها المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية، ويصف شقيقه الدكتور بهجت محمود جنيد، طفولة أخيه الدكتور يحيى قائلاً: «عرفتك منذ الصبا عاشقاً للكتاب متلهفاً عليه وكأنه أخوك الذي لم تلده أمك، كنت تشتري الكتب في الوقت الذي كنا نشتري فيه الألعاب، كنت تبحث وتكتب في الوقت الذي كان من حقك أن تلعب فيه مع الأصدقاء، أنشأت أول مكتبة في بيتنا بالطائف في الوقت الذي كان نادراً جداً ما تجد فيه مكتبة».
إشتهر الدكتور يحيي بن محمود بن جنيد بلقب (الساعاتي ) الذي أضيف لاسمه كما يقول اجتهاداً من مدير المدرسة الابتدائية بالطائف، الذي كان يعرف أن والده يعمل مصلحا للساعات وعند تعبئتة لاستمارة الشهادة الابتدائية -السادسة- أضاف لقب الساعاتي لاسمه والذي ظل يحمله حتى عام 1415 هجرية حيث تم تعديله رسميا باسم عائلته( جنيد ) والذي يعرف به جميع إخوانه وأفراد أسرته، وبعد حصوله على شهادة الثانوية العامة، التحق بكلية الآداب بجامعة الملك سعود بالرياض وحصل منها على درجة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها عام 1389هجرية، وعين بها بوظيفة أمين مكتبة، ثم أصبح رئيسا لقسم المخطوطات بالجامعة، سافر بعدها في بعثة دراسية إلى الولايات المتحدة الامريكية، وحصل على شهادة الماجستير في المكتبات والمعلومات من جامعة ميزوري عام 1396 هجرية، وبعد عودته، عمل رئيسا لقسم التزويد في عمادة شؤون المكتبات بجامعة الملك سعود، ومحاضراً، إضافة لرئاسته لتحرير مجلة (عالم الكتب)، وكان في نفس الوقت، يواصل دراسته للحصول على الدكتوراه من قسم المكتبات والمعلومات والوثائق بكلية الآداب بجامعة القاهرة والتي نالها فيعام 1403هـ، حيث عين بعدها أستاذاً مساعداً ورئيساً لقسم المكتبات والمعلومات بكلية العلوم الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية من عام 1404 حتى عام 1407 هجرية، وفي هذا العام ولدت فكرة إنشاء مكتبة الملك فهد الوطنية، فأصبح مستشاراً لها لمرحلة الإعداد والتشغيل، ثم أصبح اول أمين لها عام في عام 1410 هجرية، حتى غادرها عام 1416هـ، ليعود لعمله أستاذاً بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كما عمل أستاذاً متعاوناً في معهد الإدارة العامة، وكلية الملك فهد الأمنية، وكما حفلت مسيرته العلمية بإسهامات فاعلة في الاهتمام بتطوير المكتبات ورسالتها الثقافية والعلمية والتعليمية.
حفلت حياته العملية بالكثير من المناصب والمهام منها عضوية مجلس الشورى, وأمين عام مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ورئيس تحرير مجلة”عالم الكتب”، ورئيس تحرير “عالم المخطوطات والنوادر”, رئيس تحرير مجلة “الفيصل”, عضو هيئة تحرير “الدارة والعقيق”, وعضو المجلس العلمي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية, عضو اللجنة العلمية في مكتبة الملك عبد العزيز العامة في الرياض وعضو مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية.
وأصدر خلال مسيرته الكثير من المؤلفات القيمة التي تضمنتها القائمة الببليوجرافيا الطويلة لهذه الأعمال والدراسات والبحوث، من بينها الأدب العربي في المملكة العربية السعودية ببليوجرافيا. وحركة التأليف والنشر في المملكة العربية السعودية، و حمد الجاسر، دراسة مع ببليوجرافيا، والحياة الثقافة في مكة المكرمة في القرن التاسع عشر الميلادي والطباعة في شبه الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر، – من مقالات حسين سرحان-.والوقف وبنية المكتبة العربية استبطان للموروث الثقافي، وغير ذلك كثير من الكتب والدراسات، ويعدّ ما أنجزه عن الببليوجرافيا الوطنية، والذي تجاوزت مجلداته عشرة مجلدات,عملاً فكرياً ضخماً استغرق وقتاً طويلاً وجهداً عظيماً، كما أنه أول من أسس مركزا خاصا للمعلومات عن المملكة, وسجل حضوراً لافتاً في صياغة نظام حقوق المؤلف، وتطبيق نظام الإيداع والترقيم الدولي للمطبوعات، وقد توجت مسيرة الاستاذ الدكتور يحيي بن محمود بن جنيد الفكرية، وعطاؤه العلمي بحصوله عام 1418هـ على جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية عن كتابه ( الوقف وبنية المكتبة العربية استبطان للموروث الثقافي )، والتي منحت له مناصفة بينه وبين أستاذه الدكتور عبد الستار الحلوجي الذي أشرف على رسالتة للدكتوراه. وكانت لفته إنسانية عاليه من الدكتور ( يحيى )، حين تبرع بقيمة الجائزة المالية لجمعية الأطفال المعوقين في المدينة المنورة.
وبعد، وكما بدأنا بشهادة علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر- رحمه الله- عن الدكتور يحيي بن محمود بن جنيد، فإننا نختم بما قال عنه الإعلامي الكبير الدكتور عبدالرحمن الشبيلي -رحمه الله تعالى-:«رجل جمع بين العلم والأخلاق وصبر العلماء، وأستاذ نذر نفسه وفكره وحواسه في مجال لا يعرف قدره إلا الباحثون والعلماء والمتخصصون في النشر والتأليف والتوثيق والمكتبات، وعالم عزف عن الشهرة والأضواء، رغم تفوقه وبصماته البارزة.»
حفظ الله أستاذنا الكبير الأستاذ الدكتور يحيي محمود بن جنيد، ورعاه ومتعه بالصحة والعافية.
الساعاتي..عاشق الكتب والمكتبات
![](https://albiladdaily.com/wp-content/uploads/2024/02/عبدالعزيز-التميمي.jpg)