قابلها في أحد مساءات شباط في رفحاء الباردة. شاب رفحاوي في السابعة عشر من عمره يذهب في رحلة برية نحو الصحراء ويتورّط في طريقه بها. كما هي عادة هواة الرحلات الصحراوية إذا كنت منهم، لابدّ من نسيان شيء ما، أو غرض تحتاجه في الصحراء، عندما تشرع في تجهيز رحلتك. لم يجد صاحبنا أعواد الكبريت التي تساعده على إشعال النار التي تقيه برد رفحاء القاتل في مثل هذا الوقت. فشلت كل الطرق التقليدية في علاج هذا الأمر. كان لا بد من اللجوء إلى أحد بالجوار، وطلب المساعدة في هذا الأمر البسيط. قد تبدو بعض الأحداث الحقيقية أكبر من الخيال، عندما تحاول سردها، لكن هذا ما حدث بالضبط.
في الثمانينات الميلادية، كانت رفحاء تعجّ بعشرات الأسر العراقية التي هربت من جحيم الظروف الصعبة في العراق، وكانت تتخذ من رفحاء القريبة منها على الحدود ملاذاً مؤقتاً لها، وخاصة عند أولئك البدو الرحّل، الذين يتحمّلون الظروف الصعبة في الصحراء، ويتكيّفون معها، ويتنقّلون فيها بحثاً عن المراعي. ويبدو أن بيت الشعر القابع هناك، يعود لإحدى هذه الأسر. كان الهواء بارداً يخترق العظم، وكان لابدّ من اللجوء لهذا البيت الذي يقع على طرف من هذه المكان. ذهب صاحبنا إلى الجزء المخصص للرجال من بيت الشعر، ورأى امرأة عجوز تجلس حول نار مشتعلة، وبجانبها فتاة شابة. كانتا تراقبانه وهو يقترب منهما. ” السلام عليكم،” قال لهما. ردت المرأة العجوز السلام بينما اكتفت الفتاة الشابة بالنظر إليه، وهي ترتدي نصف حجاب يبدي عينين حادتين لامعتين تخترقان قلب كل من تقع عليهما. “جزاكم الله كل خير. أحتاج كبريت لإشعال النار،” قال لهما وهو يجمع قواه. نهضت الفتاة الشابة بخفة شديدة واختفت داخل بيت الشعر ثم عادت وهي تحمل صندوقا صغيراً. سلّمته له بيديها العاريتين من أي أساور أو ذهب. لا يبدو أن هاتين اليدين تحتاجان إلى شيء يزيّنهما. هما كافيتان هكذا. خلق الله الذي أتقن كل شيء. لمست يده يدها بشكل عفوي وهو يأخذ الصندوق منها. لم يكن بحاجة للصندوق فقد كانت هذه اللمسة كافية للشعور بالدفء بقية ذلك اليوم، أو هكذا شعر. عيناها الواسعتان لا تزالان تحدّقان به. ” سوف أعيد الصندوق لكم بإذن الله،” قال مرتبكاً. “خوذه عيني ما نريده. ما نريده،” قالت له بلهجتها العراقية وعيناها تتابعانه. كانت اللغة سيمفونية جميلة زادت من شقاء صاحبنا الذي لم يكن بحاجة إلى رؤية النصف الآخر المخفي من وجهها المحجّب. تكفّل الخيال برؤية وجهها الجميل كاملاً. قال لها “شكراً” وهو يغادر بيت الشعر.
كان يبحث عن شيء يقوله لكنه لا يستطيع. هل كانت الفتاة أيضاً تريد أن تقول شيئا؟ عيناها تقولان حديثا مطولاً لا نهاية له. لم يستطع النظر خلفه حيث بيت الشعر. كان لا بد من أن يكمل طريقه إلى غير رجعة. النار التي تركها خلفه تخبو شيئا فشيئا. لا يبدو أن طريقهما سيلتقيان مرة أخرى.
الآن، عمر صاحبنا يقترب من الستين، لكنه لم ينس تلك السيمفونية التي سمعها، واليد التي لمسها، والعينين الجميلتين اللتين تحدّث معهما. بقيت معه مثل جذوة تحت رماد تلمع بشكل خافت دون أن تنطفئ.
khaledalawadh @