في مقاله المنشور بحريدتنا الغراء البلاد بعنوان:(السِير الذاتية وتابوهات المجتمع)، تحدث الأستاذ يوسف الحسن عما تحفُّ به كتابةَ السير الذاتية للكُتّاب العرب من محاذيرُ عدة، ليس أبسطها المحذور الاجتماعي الذي يخشاه الكاتب، ويمعن في التفكير قبل الكتابة، أو ربما استخدم كوابح عديدة أثناءها، وهو ما يقلِّل من مصداقية كتاباته، أو حتّى يضعفها إلى حد بعيد.
ولعلي أشير هنا أنه بحسب قاموس أكسفورد، فإن نشوء فن السيرة الذاتية بدأ عام 1809م، وقد تطور معناها ليدل على كتابة إنسان لتاريخه، أو قص حياة إنسان بنفسه. وتتميز بأن كاتبها، هو صاحب السيرة ذاته، ولهذا فهي تتضمن جانباً كبيراً من الصدق، لأنه لايستطيع أن يروي التجربة إلّا من عاناها.
وللأدباء والمفكرين العرب في العصر الحديث، رأي في نشر الاعترافات، أو السيرة الذاتية، يلخّصها أستاذنا الكبير عباس محمود العقاد -رحمه الله- بقوله: (لن يكون الاعتراف اعترافاً في رأي البعض، إلا إذا كان اعترافاً بأمر يغلب على الناس إنكاره، وكتمانه، فلا يفهمون من الاعتراف، إلا أنه إعلان لخبيئة في النفس، يشين صاحبها وتدعو إلى إخفائها).
ورغم هذا الرأي الصادر من أديبنا الكبير، إلا أن عدداً من الأدباء والمثقفين العرب وغيرهم، كتبوا شيئاً من سيرهم الذاتية، من بينهم الأستاذ عبدالرحمن شكري، الذي صدر له كتاب أسماه:”كتاب الاعترافات” وهو قصة نفس، يقول النقاد عنه أنه عني باستبطان ذاته واحتفاله بكشف طواياه.
أمّا عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، فقد كتب ثلاثية أيامه، والتي سجل في صدق وصراحة، ماصادفه من أحداث، ومواقف، شكَّلت حياته من طفولته الأولى، وكفّ بصره، وساهمت في نبوغه.
وكذلك فعل الأستاذ إبراهيم عبدالقادر المازني في كتاب (قصة حياة )، والذي نشر بعد وفاته -رحمه الله- وضمّ بين دفتيْه، سلسلة مقالاته التي كان ينشرها بمجلة “آخر ساعة”، والتي كانت تفيض بنبض حياته،وألمه.
أمّا الأستاذ توفيق الحكيم، فقد كتب سيرته الذاتية مرتين، الأولى: في كتابه (عودة الروح)الذي سجل جزءاً من نشأته وصباه، والثانية: في كتابه(سجن العمر) الذي تناول فيه أبعاداً عميقة التأثير في حياته وتجلّياتها الفكرية والإجتماعية.
وكذلك فعل الأساتذ أحمد أمين في كتابه (حياتي) ،والأستاذ العقاد في كتابه (حياة قلم) وكتابه الآخر ( أنا )، وعندنا، كتب الأديب الكبير أحمد السباعي أول سيرة ذاتية لأديب سعودي عام 1374هـ، وهي سيرة (أبو زامل – أيامي) التي تمثل بعض فصولها كما يقول (جانباً من حياتي وتغطي بجوانبها الأخرى صوراً من حياة الجيل الذي عشته.)
وفي المقابل، فإن في بعض الرسائل التي يتبادلها الأدباء والمفكرون والأصدقاء والمحبون، نوعاً من أنواع السير الذاتية، التي قد تحمل في طياتها انفعالات وجدانية، وعواطف جيّاشة، تنطوي على قدر كبير من كشف حقائق النفس، ودخائلها العاطفية، دون مواربة. ولعل صدق هذه الكلمات، يتحقّق من قراءتنا لكتاب: «المعداوي وفدوى طوقان..صفحات مجهولة في الأدب العربي المعاصر»، والذي جمع فيه
الأستاذ رجاء النقاش سبع عشرة رسالة بعث بها الأستاذ ألناقد أنور المعداوي إلى الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان خلال الفترة:1951 – 1954.
في مقدمته للكتاب، يقرر الأستاذ النقاش الغياب شبه التام لأدب الاعتراف عند الأدباء العرب، بسبب المحاذير الكثيرة التي تمنع المبدعين من الكشف عن نوازع نفوسهم الموَّاراة خلف جدران سميكة من التابوهات.
ومن يقرأ رسائل الأستاذ المعداوي إلى الشاعرة فدوى طوقان، سيجد أن علاقتهما بدأت أدبية بامتياز، وأنه كان من أشد المعجبين بتجربتها المتوائمة مع تيار الحركة النفسية في الشعر، بل لا يتوانى عن تفّضيل شعرها على شعر الشاعر الكبير علي محمود طه، بل تجده يفضّلها أيضاً على شعر نازك الملائكة، معتبراً أن قصيدتها «إلى صورة»، أهم من كل قصائد نازك في «شظايا ورماد».
وقد ظلت تلك العلاقة على الورق، حتى فارق الأستاذ أنور المعداوي الحياة في عام 1965، دون أن يلتقيا أبداً، رغم وعودها المتكررة له بالمجيء إلى القاهرة، دون أن تفي بوعدها، ودون أن يفي هو أيضا بوعوده بزيارتها في مدينة نابلس، وكأنما هما يخشيان الهبوط بعلاقتهما من سماء الرومانسية إلى أرض الواقع. وبعد رحيل المعداوي، كتبت فدوى طوقان ترثيه:
حين تبدو الحياة في يومكَ المقفر مني
كئيبة محلولة
فامضِ نحو الجسر الكبير مع الذكرى
ورعشاتها العذاب الجميلة
ستراني هناك أمشي إلى جبينكَ
أنت استغراقتي وابتهالي
هو إيماننا المقدس بالحب
ثوى في أغوارنا المجهولة
والأستاذ أنور والمعداوي لمن لايعرفه، ناقد أدبي كبير، تميزت كتابته بالجرأة، والصراحة، والعمق.
كان يكتب في الأربعينات والخمسينات زاوية أسبوعية في مجلة الرسالة التي يصدرها أحمد حسن الزيات بعنوان:(تعقيبات).