اجتماعية مقالات الكتاب

كل الجماد يسمع، لكن لا يتحدث

أتذكر في طفولتي حين تحدثت مع والدي هاتفيًا، وقع مني تليفوني بالخطأ، لم أفكر في شيء سوى سؤال واحد :”بابا التليفون طاح بالأرض جاك صداع؟” ليجيبني بالنفي، حينها قمت بتوبيخ الهاتف أنه وقع. في طفولتي كنت أتوقع أن الهاتف يربط صوتي بالطرف الآخر، وأن مشاعري مهما كانت ستصل، -وفي الحقيقة حتى اليوم- رغم أنه أحد الجمادات- أتحدث إليها كغيري، وكأنها ستفهمني، خصوصًا حين أشعر بالحزن أو التوتر، أو كما فعل آلاف الذين يحملوا ذكرى رجاء البلايستيشن كي يعمل مرةً أخرى.

بشكل عام التحدث إلى الجمادات أمر شائع إلى حد معقول، على الرغم من أن العديد من الأشخاص، لا يفكرون في الأمر بهذه الطريقة. فمثلًا عندما ينقل التلفاز مباراة، يصرخ الناس أمامها، وكأن ذلك قد يؤثر بطريقة ما على ما يحدث على الشاشة، أو تُسمع أصواتهم بطريقة ما، وأن يكون لها تأثير بطريقة ما على تغيير نتيجة المباراة التي يشاهدونها، أو كما يتحدث الموظفون أمام شاشة الحاسوب، بحثاً عن معلومة أو حثّ الجهاز للعمل، وخلال بحثي عن هذه الظاهرة لكتابة المقال، اكتشفت أنها تُعرف باسم التشبيه، أو إسناد السمات، أو المشاعر، أو النوايا البشرية، إلى كيانات غير بشرية، وقد ربطها الخبراء بالذكاء الاجتماعي، حيث يقول أستاذ العلوم السلوكية بجامعة شيكاغو، “نيكولاس إيبلي” لموقع كوارتز: “تاريخيًا، كان التشبيه يُعامل على أنه علامة على الطفولية أو الغباء، لكنه في الواقع نتيجة طبيعية للميل الذي يجعل البشر أذكياء بشكل فريد على هذا الكوكب، لا يوجد أي نوع آخر لديه هذا الميل”.

من جانب آخر، ليس التحدث، “أو التشبيه”، ما نفعله مع الجماد، فقد نطلق على بعضها اسمًا، فلا يكاد يخلو منزل من تسمية شيء عن طريق آبائنا، وأتذكر جدتي -رحمها الله- حين كانت تقوم بصنع “العيش الجنوبي”، تقوم بطلب الصحفة التي أطلقت عليها “جمِيّلة”، تيمنًا بأن تجملها وتبيِّض وجهها أم كل من يتذوقه وكان فعلًا لا يمكن لامرأة سواها أن تتقنه، وبالطبع لا ننسى الكرة “ويلسون” من فيلم “Cast Away”، التي كانت رفيقة ساعي البريد طيلة رحلته، والذي قام بتجسيده الممثل توم هانكس. وهذا أراه من الألفة ومحبة الجمادات التي كانت تعني لهم عاطفيًا أكثر من كونها لا تتحدث.

في كل الحالات، التحدث مع شيء لن يجيبك، لا يدل على خلل نفسي أو اجتماعي، بل على طبيعة رغبة التواصل في الإنسان، التي يتحدث بها مع كل شيء حتى لو لم يكن هناك استجابة لرغبته، فكما أتحدث مع الجمادات، فإني أعلم أن كل من يقرأ هذا المقال، تذكر موقفًا تحدثَ فيه مع شيء، ولم ينتظر أي إجابة.

@i1_nuha

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *