لئن كان حليب الأم غذاء للعظام والعضلات والأعصاب والدورة الدموية ، فإن ثقافة الأب وتربيته وتجاربه كنز من المعرفة ليس من السهل العثور عليه. ولقد كنت مبهورا بثقافة والدي الواسعة رغم أنه لم يدخل جامعة. وقد علمني بنفسه القرآن الكريم. لم يترك ذلك لأحد سواه. وكتب لي نسبي. وكان دائما يردِّد الهمة اسم الله الأعظم. وممّا سمعت منه أن البيت هو أول ما تكسبه وآخر ما تبيعه. وقدمت هذه النصيحة لأخ مصري. فقد كان ينوي شراء سيارة، لكن سماعه لنصيحة أبي حلت مشكلته في بلده. فهو يشكرني عليها طيلة عمره.
ومن القصص الكثيرة التي حكاها لي والدي ، قال:
رأى أنصار الإمام علي وخاصة أهله أن يحملوا الجثمان الشريف على جمل ليلاً ويتركوا الجمل يسير وحده إلى حيث يأذن الله أن يحط رحاله. فلا يعلم أحد أين دفن احتراساً من الأعداء أن ينبشوا قبره. وإلى اليوم لم يعرف الفتى المبهور مصدر هذه القصة.
وحين كان ساكناً في حي البغدادية بجدة ،التزم المسجد القريب من سكنه يحفظ فيه القرآن وحده وهو قريب من الخمسين من عمره. وقد رأيته أكثر من مرة يدور في المسجد بعد العصر وحيداً ويدندن بحفظه من الكتاب الكريم. وبعد المغرب ربما ألقى درساً في الدعوة إلى الله.
وفد قال لي صديقه المرحوم الحبيب محمد بن عبد الله المحضار: لوالدك خاصية عجيبة وهي أنه يستحضر من صدره آية قرآنية ثم يقرأ لك ما بعدها وأيضا ما قبلها. يقصد أن الحفَّاظ يسهل عليهم قراءة الآية وما بعدها. أما إذا قلت للحافظ :هات ما قبلها ،فإنه يحتاج أن يرجع لأول السورة.
وفي تطبيق علم الهمة ،فإن أبي قد حج أكثر من ثلاثين مرة ، أما العمرة فحدث ولا حرج. فقد كان يتوجه بسيارة تاكسي كل جمعة صباحاً من جدة إلى الحرم المكي ويعتمر ويصلي الجمعة ثم يعود إلى جدة قبيل العصر.
وقد تعلم والدي من أبيه قوله: إذا طلب منك أحد حاجة ما ،فاجعلها نصب عينيك. لا تسوِّف ولا تتلكأ.
وكان والدي لا يترك صلاة الجماعة في المسجد في شبابه وحتى بعد أن وصل إلى السبعين من عمره. وكان يلبس لكل صلاة أجمل الثياب ويتطيّب وكأنه ذاهب إلى حفل. وهي خصلة ورثها عن أبيه عن أسلافه حتى جده الأعلى علي بن أبي طالب عليه السلام.
وفي الأدب ،كان والدي كثير المطالعة لديوان المتنبي وكتاب نهج البلاغة الذي جمعه الشريف الرضي من كلام الإمام علي عليه السلام. وكان إذا حضر درسا من الدروس واحتاج طلبة العلم إلى استذكار بيت شعر، قال العلامة عبد القادر السقاف اسألوا علي بن حسن.
إنني عاجز عن مكافأته وتعبه عليّ(1343-1418ه). اللهم ارفع درجته وأحبابه في رياض الجنة. الفاتحة.