تنتشر عبر شبكات التواصل الاجتماعي مقاطع مزيفة تم تركيبها أو إنشاؤها عبر الذكاء الصناعي لأشخاص مؤثرين لم يتفوّهوا بأي كلمة في هذه المقاطع الأمر الذي يخلق واقعاً مزيّفا يجعل الناس يشكّكون فيما يصل إلى هواتفهم وعدم تصديق أي شيء لأن الذكاء الإصطناعي خلف هذا الأمر وبالتالي كل ما نراه في هواتفنا كذبة كبيرة.
تخيّل أن تقع هذه المقاطع بيد من لا يتمتعون بمهارات التفكير الناقد المتقدّم الذي يستطيع التفريق بين الغثّ والسمين والخبر الحقيقي والخبر الكاذب، كأن تمتد هذه المقاطع المزيّفة إلى موضوعات تخص صحة الإنسان وعلاج الأمراض التي يمكن أن تصيبه، أو الفتاوي الدينية التي يمكن أن تبيح له ما هو محرّم شرعاً، أو التدخّل في نتائج الانتخابات السياسية التي سيشهدها العالم في الأيام القادمة ، وهو ما عبّر عنه أحد الخبراء في شركة قوقل الذي قال إن هذا الأمر، أي أن التزّييف الناتج من استخدام تقنية الذكاء الإصطناعي، يشكّل تهديداً خطيراً للديموقراطية في العالم الذي سيشهد انتخابات قادمة في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا والهند وإندونيسيا وألمانيا.
إذن، يبدو أن تعدّد المعنى لأي نصّ والذي تحدّث عنه أصحاب فلسفة ما بعد الحداثة قد وصل إلى ذروته النهائية حيث المعنى أصبح مزيّفا أو كاذباً أو لا وجود له أصلاً. الأمر وصل إلى اغتيال القارئ أو المتلقّي وليس اغتيال المؤلف أو مصدر النص كما يقول بذلك أصحاب فلسلفة ما بعد البنيوية التي خرجت من رحم ما بعد الحداثة وهي النموذج الكبير أو البارادايم الذي يسيطر على العالم الآن بسبب انتشار التقنية التي تعتمد على الذكاء الإصطناعي.
نحن نعيش أكبر أزمة في المعنى يمكن أن يعيشها الإنسان منذ نشأته على هذا الأرض. لم يستطع نوح عليه السلام الذي بقي أكثر من ألف سنة مع قومه أن يهديهم إلى معنى واحد حقيقي واضح وبسيط ومباشر ومن دون أي واسطة تكنولوجية أو ذكاء صناعي، فما بالك إذا تعدّد المعنى إلى الدرجة التي لا يمكن حصره أو السيطرة عليه من خلال العشرات من شبكات التواصل الاجتماعي. ببساطة، تعدّد المعنى أدى إلى سيولته كما يقول زيغمونت باومان، وبالتالي، في وجود الذكاء الإصطناعي، عدميته وتلاشيه.
لقد أصبح كل شخص يعيش عالمه الخاص في غرفته المعزولة الخاصة ويؤوّل خلف جدرانها آلاف المعاني التي تصل إلى هاتفه المحمول عبر التيك توك أو إكس أو ما شئت بعد ذلك، ثم ينتهي به الأمر إلى معنى جديد غير مكتمل يتبنّاه هذا الشخص هو في الواقع نتاج تفاعله الجامد أو المتخيّل أو الافتراضي مع هذه الكذبات التي تصل إلى هاتفه.
المثير للمفارقة الساخرة هو عندما تصلك رسالة عبر هذه الشبكات يبثها تقني له جمهور واسع يروّج بحماس منقطع النظير ويحتفل بابتسامة عريضة بهذا التقدّم والمنجزات غير المسبوقة للذكاء الإصطناعي في الوقت الذي يغيب عنه أن الشيطان نفسه قد يكون خلف هذا الاتجاه وأنه الاآن، أي الشيطان، يحتفل مع أعوانه بهذا التقدّم.
khaledalawadh @