من السوالف القديمة المعبرة، التي ما زالت تختزها الذاكرة رغم تقادم عهدها، أنني كنت عائداً ذات مرة، من مهمة عمل تعليمية في دولة عربية شقيقة، وكان مسار الرحلة من عاصمة تلك الدولة إلى جدة عبر إحدى طائرات “الترايستار” التابعة للخطوط الجوية السعودية، وكنت أجلس على مقعد ثلاثي بالدرجة السياحية العادية، وبجانبي راكبان أحدهما سعودي والآخر عربي، وبعد إقلاع الطائرة، واستقرار مسارها الجوي، وبدء تقديم القهوة السعودية وحبات التمر على الركاب وتوزيع الصحف اليومية، وهي عادة (حاتمية) درجت عليها الخطوط السعودية عبر تاريخها الطويل المشرف، في خدماتها المميزة، وبعد مضي نصف مسافة الطريق تقريباً، تناول جاري السعودي مجلة (أهلاً وسهلاً) التي تصدرها السعودية وتحتوي على استطلاعات ومعلومات ذات صلة بالملاحة الجوية، والتي تحتوي عليها جيوب مقاعد الركاب الخلفية، وبدأ في تقليب صفحاتها ووقوفه عند قصيدة العدد ويلوم من اختارها بحجة أنها مليئة بالأخطاء اللغوية والعروضية؟
قلت له: على رسلك يا هذا فقد ظلمت القصيدة وشاعرها ومن اختارها، فبحسب علمي وقراءاتي أن الشاعر يُعد في طليعة الشعراء العرب ومشهود له بالتميز في مجال الشعر وفنونه، وله العديد من الدواوين الشعرية ترجم بعضها إلى لغات أخرى.
ثم يلتفت إليه جارنا الثالث قائلاً: قرأت القصيدة ولم ألحظ عليها عيباً من عيوب الشعر، وحتى تكون منصفاً في رأيك عليك إيضاح الأخطاء اللغوية والعروضية التي اتهمت بها القصيدة، لأن إلقاء الكلام جزافاً، لا يتفق والأمانة العلمية التي جُبل عليها (المتخصصون) أقول هذا كأستاذ جامعي متخصص في علوم اللغة العربية وآدابها من نحو وصرف وعروض، وقد أمضيت في تدريسها أكثر من (20) عاماً وكثيراً ما استشهدت ببعض قصائد هذا الشاعر في بعض محاضراتي للطلاب لجودتها وسلامتها من شوائب الشعر فوجم ولم يستطع رداً، ولم يتوقع أن فينا من سيكشف جهله.
خاتمة: كثيراً ما تكتظ مجالسنا العامة والخاصة بالعديد من أمثال صاحبنا ممّن يهرفون بما لا يعرفون ،وقديماً قالت العرب : يُعرف الرجل من ثلاثة (من منطوقه ومكتوبه ومرسوله) .
وصدق القائل:
يا باري القوس برياً ليس يُحسنه لا تظلم القوس أعط القوس باريها
وبالله التوفيق.