تُعَد الكتابة الصَّحفية مزيجا بنكهة فنجان قهوة الصباح، تفوح رائحتها مُرَحِّبة بزوار ذلك الركن الأنيق ، بأحد المقاهي الراقية في مدينة تفرح بنشوة الصباح، وأنا تذكر شيئا من ذلك الماضي الجميل وذكريات الطفولة في مدينة جدة، ومقاهيها التي تُعد في تلك الأيام على أصابع اليد الواحدة، إلاّ إنها كانت مُلتقى للشعراء والأدباء وكتَّاب الأعمدة الصحفية،
إلاّ أن هذه النخب الثقافية عادة ما يجتمعون في ساعات المسَاء، حيث الأحاديث والمسَامرات التي أظنها ذهبت مع ذلك الجيل، وبما يمتلكونه من مخزون فكري لنثار الأقلام الناصعة بالنقاء، لتداعب قطرات الندى، وهمسات الإبداع وتجليات الصدق وعمق المحبة، لتؤكد الماضي العريق لهذه المدينة الباهية، بإطلالتها على عشاقها بوجهها المضيء.
و كذلك الحال فإن لهذه المقاهي الجِدَّاوِيَّة، زوار الصباح لمختلف أصحاب المهن متعددة الأذواق، فلكل مقهى من هذه المقاهي، زبائنها وفق تصنيف هذه المهن التي تتمركز تحديدا في محيط البلد وبقية أسواق مدينة جدة، يحكمهم قرب ذلك المقهى من أماكن العمل، ومجال المهنة التي يجيدها أصحابها، بكثير من المهارة التي تنم عن عشق واحترام كل صاحب مهنة مهنته، التي تُعْتّبَر لقمة عيشه وأسرته والمستقبل الذي يتكئ عليه، لمزيد من الاطمئنان وهكذا هي الحياة، تحلو بكل مصاعبها ومتاعبها لأولئك الرجال، ومع كل ذلك تبقى أهازيجهم الصباحية، ومداعباتهم لبعضهم البعض، ممزوجة بطعم الشَّقَا المتعارف عليه في ذلك الزمن الجميل، في صورة تكاد تخفيها ملامح الحاضر.
حين تغيرت الأحوال والمواعيد والأماكن، وتغيرت التَّجَاذُبَات البينية بين الناس، وانعكست المؤثرات البيولوجية، على شرائح المجتمع، بحيث أصبحت هذه المتغيرات بمثابة ضابط التوقيت، ومواعيد تناول الطعام، باختفاء السفرة الجماعية، بعد أن تعددت أذواق أفراد الأسرة الواحدة، والله يكون في عون سيدة البيت الأولى، وهي تحاول التوفيق بين أمزجة الكل بحسب الرغبة، لهذا تظل عاطفة الأمومة حاضرة، حتى وإن كان نداء بعض الآباء تنتابه المطالبة بوحدة الكيان الأسري،
ولاسيما من عاش أريحية وأسلوب حياة المجتمع آنذاك، إلاّ أننا لا نمتلك إعادة الزمن للوراء، ولا يعني أن هناك ما يجب التخلص منه من بعض التقاليد القديمة، وإنما ما نعيشه اليوم من سرعة ديناميكية الحياة والمتغيرات التي صاحبت أنماطها.
مع فنجان الشاذلية والقهوة العربية، برائحة القرنفل والزعفران والهيل، ونحن في مجتمعنا السعودي وما للقهوة العربية من مكانة تاريخية وموروث حضاري، نتفق جميعا على التمسك بهذا الإرث وتتوارثه الأجيال جيل بعد آخر، ومدينة جدة ومجتمعها بطيبته وخصوصيته، كغيره من مجتمعات كافة المدن السعودية، باتساع هذا الكيان والذي نزداد فخراً به، وأحسب إنني بهذه الجولة السريعة، لا زلت استمتع باحتساء فنجان قهوة الصباح بمذاقها الخاص، التي لازالت حرارة ذلك الفنجان، تلامس أنامل أصابع يدي متمنيا أن تنال هذه المقالة إعجاب قارئها.