بدأت تلوح في الأفق أياماً عظيمة حيث اقتربت رحلة الحج وفاح مسكها، وسوف تحط ركابها عما قريب في أطهر بقاع الأرض، في بقعة صغيرة تؤدى فيها الشعيرة بفضل الله بكل يسرٍ وسهولة، لا يشبهها بقعة على هذه البسيطة في شتى أصقاع الأرض.
حتى وإن صاحب هذه الرحلة الإيمانية العظيمة بعضاً من المشقة والتعب ، إلا أنها مليئة بمشاعر الفرح والسكينة وراحة النفس، يجد الحاج فيها سعادة روحانية مليئة بالطمأنينة والرضا.
إنها فريضة عظيمة تحمل تظاهرة إسلامية راقية، يسودها مبدأ المساواة والعدل، تتلاشى الفوارق والأنساب ويكتسي الجميع حللاً بيضاء كبياض الثلج تجمع الغني والفقير والخادم والمخدوم .لها عمق حيث تسبر أغوار النفس البشرية لما لها من أثر وجداني في نفس المسلم، كونها مظهر يدل على المساواة بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم وألوانهم وأجناسهم مما يجعلهم أكثر وحدةً وتماسكاً بعيداً عن مظاهر الزينة والترف، يحدث هذا التفاعل في أيام معدودات تترك أثراً كبيراً في تهذيب المشاعر والسمو بها .
هذا الالتقاء الروحاني العظيم للمسلمين من جميع أطياف الأرض يُعمق في النفس البشرية معنى الوحدة ونبذ الاختلاف والتفرق وإنما يتجلى فيه وحدة الشعائر والمشاعر ووحدة الهدف والسُبُل، الجميع باختلاف ألسنتهم ولهجاتهم يؤدون أعمال منظمة لا فرق بينهم كأنهم جسد واحد. و هذا التلاقي الإنساني يُعمق في النفس بناء علاقات إنسانية وثيقة ترتقي بأخلاقيات السلوك الاجتماعي وتمد المسلم بشعور القوة والترابط والتآخي، مما يعزز التوافق النفسي والاجتماعي
حري بذلك أن يجعلنا نزداد إيماناً بعمق وأهمية الشعائر الدينية الجماعية لأنها تساهم في الدعم المعنوي والعاطفي والاجتماعي للفرد مما يقوي من صحته النفسية وبناء التكامل النفسي. يثمر ذلك بأن يكتسب الحاج زيادة في قوة إرادته والصبر على الشدائد وضبط النفس والتحكم بالانفعالات غير المنضبطة، وهو من جهاد النفس الذي يسمو بالمشاعر الإنسانية إلى أعلى درجات الرقي الأخلاقي، (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة:197]
إن الصفاء الروحي الذي يصل إليه الحاج في نهاية رحلته الإيمانية تتعمّق فيها خلجات قلبه الممزوج بمشاعر الضعف والرهبة عند النظر إلى الكعبة المشرفة والتأمل فيها وكذلك عند الوقوف العظيم بمشعر عرفات، وما يتخلل ذلك من مراجعة النفس والتفكّر في ترتيب أولويات المؤمن. وهذا بحد ذاته علاجاً روحياً بالتأمل يعتبره علماء النفس استراتيجية مساعدة في تنظيم عمل الجسم والقضاء على الاضطرابات العقلية والعصبية وتحسين القدرات العقلية لأنها تساعد على تركيز الانتباه وإبعاد الأفكار المشوشة التي تجعل العقل مزدحماً بأفكار متعددة وربما متفاوتة مما يتسبب في الضغط العصبي.
إن شعائر الحج تساعدنا في اكتساب شعور الطمأنينة والاسترخاء وتحسين الصحة الجسدية والنفسية، و كل ركن من أركان الحج يحمل أثراً نفسياً عميقاً: فرمي الجمرات يطهّر النفس من شوائب ووسوسة الشيطان، ومن ثم يزيد يقين الحاج مع كل تكبيرة أن الله أكبر من كل شيء، حتى يأتي دور نحر الأضاحي فينقي النفس من البخل والشح واستشعار المسلم لحاجة أخيه المسلم، إلى أن يصل الحاج إلى التحلل من الإحرام لما له من أثر في تطهير النفس والتخلص من الذنوب، حتى يختم الحاج تلك الرحلة الجميلة بالطواف حول الكعبة ممزوجة بالذكر والدعاء بمشاعر يكسوها الخشوع والبكاء حين يأتي الوداع .إنها سعادة بالغة وطمأنينة نفس عميقة يصعب وصفها والتعبير عنها فهي فريضة عظيمة بأركانها المختلفة.