تُعدّ المزارع البعلية أحد أقدم أنماط الزراعة التي عرفها الإنسان، وهي شاهد حيّ على علاقة متوازنة بين الإنسان والأرض، اعتمدت عبر العصور على مياه الأمطار. هذا النمط الزراعي لم يكن مجرد وسيلة لإنتاج الغذاء، بل شكّل تراثًا متجذرًا تتناقله الأجيال؛ بوصفه جزءًا من الهوية الثقافية والاقتصادية، وعبر الأجيال، توارث الناس هذا النمط الزراعي كما يتوارثون الأسماء والملامح، فكانت الزراعة البعلية مدرسةً للحياة قبل أن تكون وسيلة للرزق، تعلّموا منها أن الأرض تُحب من يصونها، وأن المطر حين ينزل لا يروي الزرع فقط، بل يوقظ في النفوس شعور الانتماء للجذور.
وتتميّز الزراعة البعلية بمعرفة دقيقة بمواسم المطر وتقلبات الطقس، حيث اكتسب المزارعون خبراتهم من تراكم التجارب، فأتقنوا اختيار التوقيت المناسب للزراعة، وتحديد محاصيل معينة قادرة على التكيّف مع شحّ المياه، مثل الحبوب والبقوليات، وقد أسهم هذا الأسلوب الزراعي في ترسيخ قيم الصبر والاعتماد على الله، إضافة إلى احترام الطبيعة والتعامل معها دون استنزاف، كما أن للأراضي البعلية دورًا مهمًا في تحقيق الاستدامة البيئية؛ إذ تُسهم في الحفاظ على التربة وتقليل استهلاك المياه، كما تُعدّ نموذجًا زراعيًا صديقًا للبيئة في ظل التحديات المناخية المتزايدة، والحفاظ عليها يعني صون إرث كبير وجزء أصيل من ثقافتنا، وهو يمثل خلاصة تفاعل الإنسان مع بيئته عبر مئات السنين.
ومع تسارع وتيرة التطور الزراعي، تبرز الحاجة الماسة إلى إعادة تسليط الضوء على هذا النوع من الزراعة، ودعمه ببرامج توثيق وتطوير تحافظ على روحه الأصيلة، فالمزارع البعلية ليست مجرد مساحات تُزرع، بل ذاكرة وطنية حية، وجسر يربط الماضي بالحاضر، والحفاظ على الأراضي البعلية ليس خيارًا زراعيًا فحسب، بل مسؤولية ثقافية ووطنية، لأن التفريط بها يعني فقدان جزء من الذاكرة والهوية، وانقطاع حكاية بدأت مع أول قطرة مطر. فهي إرثٌ لا يُقاس بما تنتجه من سنابل، بل بما تزرعه في الوعي من قيمٍ، وبما تتركه في الأجيال من احترامٍ للأرض. وكلنا في خدمة الوطن.
المزارع البعلية.. تراث زراعي
