ضرب الشاعر الإسباني فيديريكو غارثيا لوركا مثلًا رائعًا ونادرًا في حبه للقراءة حين قال: لو أنني كنت جائعًا وكنت متسولًا في الشارع فلن أطلب رغيف خبز؛ وإنما سأطلب نصف رغيف وكتابًا. وقد تفوق في ذلك على الكاتبة السورية غادة السمان التي قالت: أعشق الكتب، وحين أشتري كتابًا شهيًّا أشعرُ بما تحس بهِ النساء عادة أمام الفراء والألماس، ويسيلُ لعابي الفِكري كجائعٍ أمام رغيفه. وربما تفوق أيضًا على إليزابيث براوننغ حين قالت: الكتاب هو المعلم الذي يعلّم بلا عصا ولا كلمات ولا غضب، بلا خبز ولا ماء، إن دنوت منه لا تجده نائمًا، وإن قصدته لا يختبئ منك، وإن أخطأت لا يوبخك، وإن أظهرت جهلك لا يسخر منك.
هذه الأقوال تظهر التزاحم بين الجوانب المادية والمعنوية في حياة الإنسان؛ فبينما كان هناك من يقول: إن الجائع لا يستطيع أن يقرأ أو حتى يفكر، هناك من قال: “حين يبقينا الخبز على قيد الحياة؛ فإن القراءة هي ما يعطي لهذه الحياة معنى”، وأخيرًا ما قاله جبران خليل جبران: الخبز يبقي الجسد، والكتاب يغذي الروح.
وبين هذه التوجهات عاشت مجتمعات وشعوب على طرفي نقيض يرجح بعضها الخبز في حين يرجح الآخر الكتب والقراءة معتمدًا على مناخه السياسي ووضعه الاقتصادي.
وحينما أصبحت القراءة متاحة للجميع بعد اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر الميلادي بدأت كفة القراءة ترجح شيئًا فشيئًا، خاصة في المجتمعات، التي تتمتع بوضع اقتصادي مريح. لكن الرغيف يصبح أولوية عندما يفقده الإنسان، ويصبح كما الماء في أهميته، أو كما قيل “أرخص موجود وأغلى مفقود”.
فالمفكر الفرنسي جان جاك روسو عاش متقشفًا ومكتفيًا بالقليل من الطعام؛ لإيمانه بأن الفكرة يمكن أن تغير العالم أكثر من الخبز. وقد استطاع بكتاباته أن ينظّر للثورة الفرنسية. أما الفيلسوف أبو حامد الغزالي (1085-1111م) فبعد أن كان في وظيفة مرموقة براتب مرتفع – أستاذًا في النظامية ببغداد ونيسابور- تركها وتفرغ للسفر والقراءة والكتابة زاهدًا في الحياة الرغيدة. أما الكاتب التشيكي فرانز كافكا؛ فقد كان يعمل نهارًا في وظيفة، وفي الليل يسهر للكتابة مهملًا تغذيته وحتى حضوره الاجتماعي، حتى استطاع أن يكتب عددًا من أعظم الأعمال الأدبية. حتى الكاتب والأديب الروسي الشهير عالميًّا فيودور دوستويفسكي كان على حافة الإفلاس، وكان يكتب لكي يسدد ديونه.
لكن المجتمعات تبدع أكثر ما تبدع حين يتوفر لديها الخبز والكتاب جنبًا إلى جنب، بما يمثله ذلك من رخاء اقتصادي وتميز ثقافي ومعرفي يسيران جنبًا إلى جنب في سباق التدافع الحضاري، الذي لا يكاد يتوقف أبدًا .
*إذا توقفت عن الكتابة فسأموت جوعًا، وإذا استمررت فقد أموت من الإرهاق. قول لمجهول.
yousefalhasan@
