فيما كنت أتفحص أحد رفوف مكتبتي، عثرت في داخل عدد قديم من مجلة صادرة عام 1989م على مسودة مقال بخط يدي أحكي فيه قصة أمير ضائع. ولست أذكر بعد مرور كل هذه السنوات مصدر القصة. لقد سار الركب الملكي يوم عرفة، ولم يكتشفوا فقدان أحد الأمراء الا بعد أن وصلوا إلى مزدلفة. وكان كثير من الحجاج لا يزالون يستخدمون الجمال أو الخيول في تلك السنين؛ فلم تكن السيارات قد انتشرت لدى كافة الحجاج. ولما علم الملك عبد العزيز- رحمه الله- سأل عن الأمير كم عمره؟ فقالوا جاوز العشرين. فقال اتركوه يدبر نفسه. وفي صباح اليوم التالي (يوم العيد) وجدوا الأمير يرمي جمرة العقبة. وكان واضحًا عليه التعب. كما لو أنه سهر طيلة الليل. ولما سألوه أين ضاع؟ قال بكل ثبات: ما ضعت أنتم الذين ضعتم. ثم قال: وجدت نفرًا من الحجاج قد تعطلت سيارتهم؛ فكنت بين خيارين؛ إما أن أساعدهم أو أن أتركهم يدبرون أنفسهم. فقررت البقاء معهم. وبعد أكثر من ساعة تمكنا من تحريك سيارتهم. فسألوه ماذا فعلت؟ فقال: أنا لست ميكانيكيًا، لكني شعرت أن السيارة فارغة من البترول. فما كان مني إلا أن أحاول إيقاف أي مركبة لتزويد السيارة المتعطلة بالوقود. لكن المشكلة أنه لا يوجد خرطوم لتلقيمه للسيارة العطشى. وأخيرًا جاءت سيارة أوتوبيس، وكان لدى سائقها الخرطوم، لكنها للأسف كانت تعمل بالديزل. فاشتريت الخرطوم من الرجل بريال عربي ذهبًا. وعاودت محاولة إيقاف السيارات فمنهم من ليس عنده من البترول ما يكفي. ومنهم من يعتذر. إلى أن جاءنا رجل شهم من أهل مكة ما معه أحد في سيارته، فأعطانا البترول المطلوب، وأبى أن يأخذ منا قيمته.
فسئل ولماذا تأخرت؟ فقال: جئت من عرفات مشيًا على القدمين. قالوا: أما عرضوا عليك أن تركب معهم؟ قال: لا يوجد مكان فيها؛ إذ هي مزدحمة بالرجال والنساء. ثم جئت على القدمين من مزدلفة إلى منى لأرمي الشيطان.
وصل خبر الأمير إلى الملك عبد العزيز، فأعجبته القصة وأمر بمنحه حصانًا من الخيل الملكي. وفي أثناء سعي الأمير الشهم رآه الحجاج الذين أنقذ سيارتهم، وهو في المسعى على الحصان الهدية. لقد هزتني هذه المروءة التي هي أخت الدين فكتبت القصة ونسيتها عشرات السنين، حتى شاء الله أن أهتدي إليها قبل بضعة أيام. قال الشاعر حافظ إبراهيم:
ويهزني ذكر المروءة والندى
بين الشمائل هزة المشتاق
مروءة
