في هذه الرواية المرعبة (451 فهرنهايت) لا يخمد رجال الإطفاء الحرائق كما هي وظيفتهم، بل يشعلونها؛ وليته كان إشعالًا للتخلص من أمور سيئة أو مضرة، لكنه إشعال الكتب بالنار..
فبطل هذه الرواية هو رجل الإطفاء غاي مونتاغ، ووظيفته حرق الكتب وبيوت من يخبئها، وذلك في مجتمع تُمنع فيه الكتب وتُعد القراءة فيه جريمة. أما عن الرقم 451 فهو درجة الحرارة التي يحترق فيها الورق، حسب الرواية، وهي تعادل 232.8 درجة مئوية.
وتقول الرواية: إن البديل عن قراءة الكتب في ذلك المجتمع كان عدة أمور؛ منها شاشات عملاقة في كل بيت تتميز بأنها تفاعلية، حتى قبل أن يعرف الناس الحواسيب والإنترنت، فرغم أن الرواية نشرت لأول مرة عام 1953؛ فإنها تحدثت عن الشاشات الذكية وعن سماعات الأذن وعن مجموعة من الأمور الترفيهية الزائفة، التي لا تغذي العقل إلا تغذية سطحية، ولا تتطلب من مشاهديها أي تفكير عميق ولا طرح أسئلة، بل تبقيهم سعداء ظاهريًّا.
لكن المثير للاستغراب في هذه الرواية، التي كتبها الروائي الأمريكي راي برادبري (1920-2012)، أن الناس كانوا يطالبون بحرق الكتب أكثر من السلطات الحاكمة، وذلك لأن القراءة بنظرهم مزعجة وتدفعهم إلى الشك والتفكير، وهو ما لا يريدونه؛ لأنهم يفضلون الراحة على التفكير. ويقولون كذلك: إن كل كتاب يزعج فئة ما في المجتمع؛ فالحل هو أن تحرق جميعًا؛ فالمجتمع لا يتسامح مع أي أفكار تسبب له القلق، غير مدركين ربما أنهم بذلك يدمرون المجتمع عبر دفعه نحو الثقافة السطحية والتافهة المتمثلة في الشاشات التفاعلية وفي الترفيه اللا متناهي؛ “يجب أن نفهم أن منازلنا ستنهار إذا لم نحرق الكتب، التي تجعلنا مختلفين عن بعضنا البعض”.
أما نقطة التحول في الرواية، وفي موقف رجل الإطفاء مونتاغ؛ فهو وقوعه في حب فتاة بدأت طرح أسئلة عليه، بعضها له علاقة بالكتب والقراءة، وهو ما استماله نحو الكتب لأنها كشفت له عن عوالم مفقودة وجميلة. فقد سألته مرة: هل قرأت مرة أيًّا من الكتب التي تحرق؟ فأجابها: هذا مخالف للقانون. وبلغ من مستوى الجهل والتجهيل في تلك المدينة أن سألته الفتاة: هل صحيح أن رجال الإطفاء في الماضي البعيد كانوا يطفئون الحرائق بدل إشعالها، فأجابها: كلا، لقد كانت المنازل دائمًا مضادة للحريق. تستطيعين أن تثقي بكلامي!
وفي نقطة مهمة في الرواية، كان مونتاغ في مَهمة حرق أحد المنازل التي تخزن الكتب، والتي رفضت صاحبته أن تغادره، وصممت على أن تُحرَق مع كتبها ولا تتركها. وقد دفع هذا الحدث مونتاغ إلى التساؤل عن هذا الشيء الذي يدفع امرأة لأن تقبل أن تحرق مع الكتب، فبدأ بسرقة بعض الكتب سرًّا من المنازل التي يحرقها وقراءتها، وهنا تبدأ مشاكله حين يطارده النظام، فينضم لجماعة سرية، وذلك بعد أن طلبوا منه أن يحرق بنفسه منزله. وكانت هذه الجماعة (حفظة الكتب)، وهم مجموعة من المثقفين مهمتهم حفظ الكتب في عقولهم، وشعارُهم “كل شخص هو كتاب حي”، أي أن يقوم كل منهم بحفظ وتذكر كتاب أو أكثر حتى لا تضيع العلوم والمعرفة التي فيها، ونقلها للأجيال القادمة. وهكذا يعرّف أحدهم نفسه بأنه “رواية دون كيخوته”، والآخر بأنه “هاملت”، وثالث بأنه “جمهورية أفلاطون”، كما يعرّف بعضهم بأسماء فلاسفة أو مفكرين أمثال داروين وشوبنهاور وآينشتاين وغاندي وكونفوشيوس. وحتى مونتاغ حينما قرر الهرب فإنه حفظ كتاب (العلوم الكنسية).
وكان مما قالوه: “الأفضل الاحتفاظ بالكتب في الرؤوس الهرمة، حيث لا يمكن لأحد أن يراها أو يشتبه بوجودها. جميعنا قطع وأجزاء من التاريخ والأدب والقانون الدولي” (ص 208)، “كل ما نريد تحقيقه هو المحافظة على المعرفة التي نظن أننا سنحتاج إليها كاملة وسليمة”.
وتتصاعد أحداث الرواية حيث تنشب حرب نووية تدمر المدينة، ولا يبقى إلا (حفظة الكتب) الذين كانوا هاربين خارجها، ومنهم بطل الرواية مونتاغ. وبعد انتهاء الحرب يعود هؤلاء إليها ويعيدون إليها العلوم التي حفظوها من الكتب.
تعطي الرواية القارئ درسًا حول مخاطر دفع الناس إلى إيقاف تفكيرهم عبر تسطيح الحياة، ما يؤدي بالضرورة إلى محو التاريخ والمعرفة.
“وعندما تنتهي الحرب يومًا ما أو في سنة ما ستمكن إعادة تدوين هذه الكتب، وسيستدعى الناس واحدًا واحدًا لتسميع ما يعرفونه، وسنطبع ذلك إلى أن يحل عصر مظلم جديد قد نضطر فيه إلى تكرار هذه العملية اللعينة من جديد” (ص 210).
وقد أثارت هذه القصة ضجة بعد صدورها ما بين مؤيد ومعارض، إلا أنها اليوم تعد واحدة من أفضل الروايات، وقد حاز مؤلفها عدة جوائز، منها جائزة بوليتزر عام 2007، وترجمها للعربية سعيد العظم وطبعت في دار الساقي. ولم تكن هذه الرواية سوى واحدة من أعمال برادبري التي ناهزت الـ500 قصة ورواية ومسرحية.
جريمة قراءة الكتب
