عندما أخبروا الكاتب المصري من أصول سورية ألبير قصيري؛ بأنه فاز بجائزة أدبية ودعوه لاستلامها، رفض استلامها لأن موعدها كان الساعة العاشرة صباحًا، وهو موعد نومه لكونه يسهر ليلًا وينام نهارًا.
ولم تكن هذه الحادثة فريدة في حياة قصيري، الذي يكتب بالفرنسية فقط؛ إذ إنه دأب في حياته على انتهاج هذه الطريقة التي تقوم على الكسل والتأني، وعدم الاستعجال في أي شيء في حياته، حتى سمي بفيلسوف الكسل أو كاتب الكسل.
ولد قصيري (1913-2008) في حي الفجالة في القاهرة في عائلة ميسورة الحال، وكان والده (أرثوذكسي) قد جاء من بلدة القْصِير في سوريا، ثم انتقل إلى مصر أواخر القرن التاسع عشر. وقد قرأ في مقتبل عمره لكُتّاب مثل فولتير وفيكتور هوغو وبلزاك، وكان عاطلًا عن العمل، يعيش هو وأبوه وعائلته على عوائد الأراضي والأملاك. وساعده هو على العيش أيضًا عوائد كتبه.
لم يتملك في حياته منزلًا، رغم قدرته على ذلك، مكتفيًا بالسكن في فنادق، وعاش 30 عامًا في غرفة واحدة لم يغيرها (رقم 58) في فندق لا لويزيان في فرنسا، لا لسبب سوى أنه يكره التملك؛ حيث يقول: إن “الملكية هي التي تجعلك عبدًا”.
تزوج مدة قصيرة قبل أن يعود أعزب طيلة حياته، مكتفيًا في حياته الاجتماعية بصداقته مع كل من سارتر ولورانس داريل وألبير كامي الذين كان يلتقيهم كل يوم في أحد المقاهي، يجلس فيه منذ الظهر حتى إغلاقه منتصف الليل ليعود إلى الفندق على سريره دون تفكير حتى ظهر اليوم التالي. ورغم أنه كان قد بلغ الخامسة والتسعين حينما توفي، فإنه كان مقلًّا جدًّا في إنتاجه الأدبي، حيث نشر سبع روايات فقط (ترجمت إلى 15 لغة)، مع مجموعة قصصية وديوان شعر. وقد بلغ من كسله أنه قيل إنه يكتب عبارتين في الأسبوع، ثم يبحث عن غيرهما! وهو سر قلة إنتاجه الأدبي مقارنة بعمره الطويل وعمره الأدبي الذي بلغ سبعين عامًا.
وكان أول إصداراته مجموعة قصصية تحت عنوان (بشر نسيتهم..) عام 1931، ثم انتظر بعدها 17 عامًا قبل أن يصدر روايته (كسالى في الوادي الخصيب) عام 1948، وهي- كما يدل عليها العنوان- تتحدث عن أسرة في القاهرة تعيش الكسل المثالي (الذي يدعو إليه قصيري)، ولا تعمل شيئًا غير النوم. ثم انتظر بعدها سبعة أعوام لكي يصدر (شحاذون ونبلاء) عام 1955، التي تحولت إلى فيلم، وبعد تسع سنوات أصدر رواية (العنف واللاعقل). وحين لم تنجح هذه الرواية كثيرًا توقف عن الكتابة أو النشر ثلاثين عامًا قبل أن يصدر روايته الأخيرة (ألوان العار) عام 1999، بطلب من الناشرين. ومن رواياته الأخرى: البيت الكبير، والطموح في الصحراء، والقاهرة الجديدة، مع ديوان (لسعات) عام 1931. وقد تميز أسلوب كتابته بالسخرية والعمق.
وتقوم فكرة تمجيد الكسل لدى قصيري على قناعة بها ربما رسخها اكتفاؤه المالي؛ بسبب الأملاك والعقارات التي كانت تملكها أسرته؛ فلم يكن محتاجًا معها إلى العمل، حتى إنه كان يذكر أنه لم يشاهد أحدًا من أبناء أسرته يعمل. وقد انعكست هذه الفلسفة على أسلوب حياته الرتيب والكسول الذي يندر أن يتغير، وحتى موضوعات رواياته تأثرت بهذه الفلسفة، كروايته (كسالى في الوادي الخصيب) التي تحدث فيها عن مجتمع القاهرة مركزًا على (أهلها الكسالى الطيبين). لكن قصيري يميز (دون تفصيل) بين كسل الأذكياء وكسل الأغبياء، وكان يؤكد أن الكسل هو الأب الشرعي للتأمل والفلسفة. وحينما سئل: لماذا تكتب؟ قال: حتى لا يعمل غدًا من يقرؤني اليوم! وكان يقول أيضًا إنه “ليس بحاجة إلى سيارة جميلة لكي يثبت وجوده على وجه الأرض”؛ ولذلك فقد مات ولم يكن يملك منزلًا، وما كان لديه في غرفة الفندق الذي توفي فيه سوى ملابسه.
ولم يعمل قصيري طول حياته إلا ما بين 1939 و1943، حينما عمل في البحرية التجارية، ولذلك فقد كتبوا عنه في فرنسا أنه أشهر كاتب كسول في العالم.
ورغم أنه عاش أغلب حياته في فرنسا وكتب بالفرنسية فقط فإنه يعد نفسه كاتبًا مصريًّا. ومن الألقاب التي حصل عليها: فيلسوف الكسل، وفولتير النيل، وأوسكار وايلد الفرنسي، وقد حاز تقديرًا كبيرًا في فرنسا لكنه ظل أقل شهرة في مصر والعالم العربي.
توفي قصيري بسرطان الحنجرة حيث فقد القدرة على النطق وكان يرد على من يسأله بالكتابة.
من أقواله: الكسل ليس رذيلة بل أسلوب احتجاج على قسوة الحياة المادية.
@yousefalhasan
