يُعد الجهد الذي بذله الكاتب العربي المغاربي ابن بطوطة في كتابة وإخراج كتابه المعروف بـ(تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)- ويسمى أيضًا رحلة ابن بطوطة- استثنائيًّا، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فالكتاب الذي لا يتجاوز عدد صفحاته الثمانمئة، قطع كاتبه من أجل كتابته 120 ألف كيلومتر من غرب الكرة الأرضية إلى شرقها، مارًّا بما يعادل اليوم 44 دولة، منطلقًا من المغرب إلى الصين وأفريقيا وآسيا الوسطى وإندونيسيا في رحلة استمرت نحو 29 عامًا.
فقد بدأ هذا الرحالة العربي (1304-1377م) رحلته متوجهًا للحج، لكن هاجس الكتابة كان يتملكه أينما حل وارتحل، متحملًا مشاق ومخاطر كثيرة، ليس أقلها القراصنة واللصوص، ومخاطر عبور الصحاري القافرة في كل من الصحراء الكبرى في أفريقيا وصحراء الربع الخالي، وتسلق الجبال، وتعرضه للجوع والمرض حينما كان في الهند وجزر المالديف، حتى إنه تعرض للاختطاف في إحدى رحلاته، بل إن أحد سلاطين الهند هدده بالقتل مجبراً إياه على المكث مدة ما في دلهي قاضيًا. وإذا أضفنا إلى كل ذلك غربته عن وطنه وأهله فإنه بذلك يكون قد ضحى كثيرًا من أجل تحقيق أمنيته في استكشاف العالم وتدوين ذلك في كتاب. وفي رحلته الطويلة والشاقة مات عدد من مرافقيه، وتخلى عنه آخرون؛ بسبب صعوبة الرحلة.
ولم تكن الكتابة نفسها سهلة على (مُحمَّد بن عبد الله بن مُحمَّد اللواتي الطنجي) حيث سلبت منه أوراقه وكتبه التي دوّن فيها بعض كتاباته في إحدى هجمات القراصنة عليه عند سواحل الهند، فاضطر إلى كتابتها بعد ذلك من ذاكرته، وهو ما عابه عليه بعض من كتب عنه بسبب بعض الأخطاء التي شابتها.
وبعد أن ألقى عصا الترحال، أملى ابن بطوطة تفاصيل رحلته على الكاتب ابن جزي الكلبي الذي كلفه أحد الحكام بذلك، حيث أمضى معه عامين في كتابة أحداث رحلته. وقيل: إن ابن جزي عدّل عليها بعض الشيء فيما يشبه ما يسمى تحريرًا لها، الذي كان- وفق ما قيل- سبب وجود بعض الإضافات، أو الأمور غير الدقيقة فيها.
كما كانت اللغة مشكلة له في التخاطب مع الناس في بعض المناطق مثل الصين وجنوب شرق آسيا حين لم يعرف لغتهم ولم يعرفوا لغته. ورغم أنه حظي ببعض الدعم من بعض الحكام الذين كان يحط رحاله عندهم، فإن ذلك لم يكن كافيًا لتأمين تكاليف رحلته، وهو ما اضطره إلى العمل في بعضها؛ إما قاضيًا أو فقيهًا، كما استفاد من قدرته على نظم الشعر، لكي يمدح بعض الحكام ويحصل منهم على بعض العطايا.
ومن أجل إنجاز هذا الكتاب، الذي نتناوله اليوم بسهولة بين أيدينا أو نتصفحه رقميًّا، زار ابن بطوطة دولًا عديدة في قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا- التي تغيرت وتبدلت تسمياتها عدة مرات منذ ذلك الوقت- منها الصومال وإثيوبيا والنيجر ومالي وتنزانيا، كما زار كلًّا من مصر والشام وفلسطين والحجاز ونجد والعراق وبلاد فارس وشرق الجزيرة العربية، كالبحرين وعمان وغيرها، وكذلك الهند والصين وإندونيسيا وروسيا والأندلس.
وقد ترك هذا الكتاب أثرًا كبيرًا على ما يسمى أدب الرحلات، خاصة في ذلك الوقت الذي كان التنقل فيه صعبًا للغاية، وكانت المعلومات حينها شحيحة، وهو ما جعل الكتاب يؤثر على عدد من المستكشفين الأوروبيين؛ مثل كولومبوس وفاسكو دي غاما. وقد ترجم إلى عدد من اللغات؛ منها الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية والألمانية.
@yousefalhasan
