مقالات الكتاب

التعليم وصناعة العقول

جاءت فكرة هذا الطرح بعد نقاشات قيّمة مع زملاء ورفاق الدرب حول مستقبل التعليم، ودوره في بناء الإنسان، وصناعة العقول القادرة على المنافسة عالميًا. تلك النقاشات أثارت تساؤلات جوهرية حول موقعنا في هذا العالم الذي يتغير بسرعة، وكيف يمكن أن يتحول التعليم من مجرد منظومة تقليدية إلى مشروع وطني لصناعة المستقبل، وما يلي هو رؤية شخصية تنبع من تلك الحوارات، وتعكس قناعة الكاتب بأن صناعة العقول تبدأ من المدرسة والجامعة والفكر التربوي قبل أن تكون في المصانع والمختبرات. أزعم أن صناعة العقول تبدأ من التعليم؛ حيث لم يعد التعليم مجرد فصول دراسية ومناهج تقليدية تُحشى في عقول الطلاب؛ بل أصبح ساحة لتشكيل المستقبل وصناعة العقول القادرة على المنافسة عالميًا، حين ننظر إلى تجارب بعض الدول نجد أن اليابان مثلًا اهتمت بدمج الأخلاق والانضباط مع العلوم والتكنولوجيا، بينما ركّزت سنغافورة على إعداد جيل متمكن في الرياضيات واللغات ومهارات التفكير مدعومًا بالتكنولوجيا والتعلم المدمج. هذه النماذج تعطينا إشارات مهمة؛ لكنها في النهاية تعكس واقع تلك الدول وأولوياتها، ولا يمكن نقلها بحذافيرها إلى بيئتنا. في المملكة نحتاج إلى نموذج تعليمي ينبع من هويتنا وأهدافنا، ويواكب في الوقت نفسه تحولات العالم. نحن نعيش مرحلة تسابق فيها الدول لتسخير الذكاء الاصطناعي والرقمنة في التعليم، والفرصة أمامنا أن نبني نظامًا مرنًا يستجيب لمتطلبات سوق العمل المحلي، ويربط الطالب منذ سنواته الأولى بواقع الاقتصاد والابتكار وريادة الأعمال. المرونة هنا تعني أن يكون الطالب قادرًا على اختيار مساره؛ سواء كان أكاديميًا أو مهنيًا، مع إمكانية التنقل بينهما. كما تعني أن يتوفر للمعلم أدوات رقمية تتيح له التعامل مع قدرات الطلاب المختلفة، وأن يجد الطالب منصات تعليمية ذكية تمده بالمحتوى المناسب لمستواه واهتماماته. ولم تعد قاعات الدراسة هي الحدود .. فالتعلم يمكن أن يحدث من خلال تطبيقات على الهاتف .. أو من خلال تعاون افتراضي مع طلاب من دول أخرى. التحدي الأكبر يكمن في إدارة هذا التحول. فبعض الأصوات ستتمسك بالنموذج التقليدي خشية المجهول وهناك تكلفة كبيرة لتطوير البنية الرقمية وتأهيل المعلمين. كما أن المرونة إذا لم تُضبط قد تخلق فجوة بين المدارس المجهزة والفقيرة. لكن هذه العقبات ليست مبررًا للتأخر بل هي حوافز لبذل مزيد من الجهد في التخطيط والتنفيذ . إن ما نحتاجه اليوم هو فلسفة تعليمية تجعل من الطالب محور العملية، وتضع أمامه مستقبلًا مفتوحًا على فرص لا تنتهي. فلسفة تُخرّج أجيالًا قادرة على خدمة الوطن والانفتاح على العالم. أجيال لا تكتفي بالحفظ والتلقين؛ بل تصنع وتبتكر وتساهم في تحقيق تطلعاتنا الوطنية. هكذا يصبح التعليم مشروعًا وطنيًا لصناعة المستقبل؛ لا مجرد شهادة تُعلق على الجدار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *