مقالات الكتاب

المنهج وسراب الثقافة المستعارة

وراء كل أمة عظيمة منهج عظيم. هذا الاعتقاد له ما يبرّره، فالمنهج المدرسي العظيم الذي يتفاعل معه الطالب في مدرسته وخارجها مع مؤثرات خارجية أخرى، ثم يتبلور تدريجيًا عندما يتحوّل لاحقًا إلى ممارسات عملية خارج مدرسته، لابد أن يكون مؤثرًا؛ بحيث ينعكس على المجتمع الذي يتعلّم فيه؛ فإن كان المجتمع عظيمًا فهو بالتأكيد نتاج منهج ما تأثّر به المتعلم بطريقة أو بأخرى. عندما يبقى الطالب من الصباح الباكر وحتى بعد منتصف النهار يتلقى منهجًا معينًا، فلابد من نتيجة ما لهذا المنهج لا تخرج من ثلاثة أشياء. قد يكون المنهج إيجابيًا بحيث يؤثر بأولئك الذين يتعلمون من خلاله، فينعكس بالتالي على المجتمع إيجابيًا، ويصبح هذا المجتمع مؤثرًا في العالم من حوله، وهذه هي النتيجة الأولى التي يطمح إليها كل منهج. أما الثانية فهي أن يكون تأثير المنهج منعدمًا بحيث لا يساهم في أي تغيير إيجابي للمجتمع بحيث يصبح متقدمًا ومؤثرًا في العالم من حوله، أي أن وجود هذا المنهج كعدمه، فهو لا يساهم في نمو ولا يمنع أي تراجع نحو الوراء لهذا المجتمع، الذي يتعلم من خلاله؛ فيفسح المجال هنا لقوى أخرى لا علاقة لها بالمنهج تتحكّم في المجتمع بالأسلوب الذي تريد. النتيجة الثالثة، وهي الأكثر خطورة، أن يكون الأثر ضارًا على مجتمعه بطريقة ما قد تكون مباشرة، أو غير مباشرة فلا يستفيد المتعلمون من هذا المنهج فقط، بل إنه قد يقدم لهم مادة تعليمية ضارة بشكل غير مقصود؛ فينعكس بذلك على المجتمع ذاته الذي يتراجع تنمويًا إلى الخلف كنتيجة لهذه الفلسفة الضارة، التي تبنّاها هذا المنهج. المنهج، إذن، في كل تلك الحالات الثلاث وما بينهما، يتحمّل بنسبة معينة مسؤولية نجاح أو فشل من يتبنّاه. لهذا السبب فإن عملية بناء المنهج وتطويره عملية معقّدة وصعبة، وتقتضي الكثير من الدراسة والبحث والتأني قبل العمل على تنفيذها. بل يمكن القول: إنها عملية يكتنفها الكثير من المخاطر؛ لأنها تتعلق بمستقبل الأجيال الذين سيتفاعلون مع هذا المنهج بحالاته الثلاث السابقة.
يمكن تخيّل صورة بانورامية تمثّل مناهج مختلفة لدول مختلفة في تأثيرها التربوي؛ فالمنهج الياباني والأمريكي والألماني وغيرها ينطلق من ثقافة هذه الدول ويتفاعل معها. يمكنك لو مشيت في الشارع ملاحظة مناهج مختلفة التأثير تمشي على الأرض؛ فهناك الهندي والمصري والباكستاني والبنغلاديشي والفلبيني والسوداني والقائمة تطول. هؤلاء يمثّلون أمماً كثيرة يمكن تصوّر مناهجها بحالاته الثلاث، التي تنطلق من الثقافة التي تتميّز بها.
لا شك إذن أن المنهج يصطبغ بثقافة المجتمع الذي يتبنّاه، بل إنه يمكن القول إن المنهج الذي لا يعتمد على الثقافة المحلية في بنائه وينطلق منها منهج ضعيف منكسر لا يحمل أي هوية، ولا ينتج ثقافة مبدعة، والسبب بسيط واضح، وهو أنه سيتبنّى منهجًا آخر، وهو بهذا يكون قد تخلّى عن ثقافته فينتهي به الأمر إلى التقليد ومحاولة اللحاق اللا نهائي بسراب ثقافة أخرى، وبالتالي فقدان الهوية وغياب الإبداع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *