السياسة

وسط تصاعد التوترات في المفاوضات.. موسكو تحذر كييف من تكاليف رفض التنازلات

البلاد ـ موسكو
في تطور لافت في مسار النزاع الروسي الأوكراني، أطلقت موسكو تحذيرًا شديد اللهجة موجهًا إلى كييف، يؤشر إلى تصعيد محتمل في حال لم تُظهر الأخيرة مرونة أكبر على طاولة المفاوضات. تصريح مساعد الرئيس الروسي ورئيس الوفد المفاوض، فلاديمير ميدينسكي، لا يمكن فصله عن السياق الاستراتيجي الأوسع الذي تعتمده موسكو منذ بداية الأزمة، حيث تدمج لغة التهديد مع دعوات “السلام”، في إطار ما يمكن وصفه بسياسة العصا والجزرة الدبلوماسية.
تحذير ميدينسكي بأن رفض أوكرانيا تقديم تنازلات “سيكلفها المزيد من الخسائر الإقليمية”، يمثل إشارة واضحة إلى استعداد روسيا لاستخدام قوتها العسكرية كورقة ضغط مستمرة على كييف، سواء في ساحة الميدان أو في ساحة التفاوض. هذه الاستراتيجية تهدف إلى إحداث تغيير في الموقف الأوكراني من الداخل، من خلال دفع النخب السياسية أو الرأي العام نحو القبول بتسويات تُعتبر غير عادلة أو قسرية.
ورغم تأكيد ميدينسكي أن بلاده “ترغب في السلام”، إلا أن اشتراطه بأن ذلك السلام مشروط بتخلّي أوكرانيا عن ما يصفه بـ”اتباع مصالح دول أخرى”، يظهر موقف روسيا الراسخ بأن الصراع ليس فقط بين دولتين، بل هو امتداد لصراع أوسع مع الغرب، لاسيما الولايات المتحدة والناتو. وهذا الاتهام يحمل طابعًا استراتيجيًا، يهدف لتصوير أوكرانيا كأداة في يد القوى الغربية، وبالتالي نزع الشرعية عن خياراتها السيادية.
ربط النزاع الحالي بالحرب الروسية السويدية التي استمرت 21 عامًا، ليس مجرد استحضار تاريخي عابر، بل هو محاولة لتكريس فكرة أن روسيا قادرة على خوض صراع طويل الأمد، وأنها تمتلك النفس السياسي والعسكري لذلك، في حين يتم تصوير أوكرانيا كمنهكة وقصيرة النفس استراتيجيًا.
وفي سياق آخر، وصف ميدينسكي للحرب بـ”قتل الأخ لأخيه”، يكشف محاولة موسكو المستمرة لإعادة تعريف الصراع كـ”نزاع داخلي” أو “أزمة بين شعب واحد”، بدلاً من الاعتراف به كغزو لدولة ذات سيادة. هذا التوصيف يحمل أبعادًا دعائية تهدف إلى تقويض المشروعية الدولية للموقف الأوكراني، وتحميل كييف المسؤولية الأخلاقية عن استمرار النزاع.
الجولتان الأخيرتان من المفاوضات في إسطنبول – في 16 مايو و2 يونيو – شهدتا بعض التقارب في ملف تبادل الأسرى، وهو الجانب الإنساني الأقل تعقيدًا، إلا أن القضايا الجوهرية، مثل مستقبل الأقاليم التي تسيطر عليها روسيا، والضمانات الأمنية، والسيادة الأوكرانية، لا تزال عالقة. تبادل الوثائق خلال الجولة الثانية لا يعني وجود تقدم جوهري، بل يعكس استمرار التباعد بين الرؤى الاستراتيجية للطرفين.
يذكر أن الاتفاق على تبادل الأسرى المرضى ومن هم دون سن الخامسة والعشرين، بصيغة “الكل مقابل الكل”، قد يحمل أبعادًا رمزية تهدف إلى تهدئة الداخل وتخفيف الضغط الشعبي، لكنه لا يغير من واقع أن الحرب لا تزال مفتوحة على احتمالات تصعيد جديدة.
ويعيد الخطاب الروسي الأخير تثبيت معادلة واضحة: لا تنازل أوكراني يعني استمرار النزاع وربما توسعه. ومن خلال تكرار هذه الرسائل، تسعى موسكو إلى زعزعة ثقة كييف في قدرتها على الصمود، كما تعمل على كسب الوقت لتعزيز أوراقها السياسية والميدانية. لكن هذه المقاربة قد تكون سيفًا ذا حدين، إذ قد تدفع أوكرانيا نحو تعزيز تحالفاتها الغربية وتصلب موقفها التفاوضي، ما يُبقي الأزمة في حالة جمود قابلة للانفجار.
وفي ضوء ذلك، يصف مراقبون الخطاب الروسي بأنه ليس مجرد تحذير، بل هو جزء من استراتيجية ضغط شاملة تستهدف كييف والغرب على حد سواء، وتستند إلى مزيج من التهديد، الرمزية التاريخية، والدعوة المشروطة للسلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *