عبدالعزيز التميمي
الحمد لله على التمام، والحمد لله على كل حال… قالها ذلك الحاج وهو يعبر عن سعادته في نهاية أدائه لمناسك الحج والعمرة والزيارة، ويختم أعظم شعائر الحج وأركانه وواجباته بكل يسر وطمأنينة. الحمد لله على تمام النعمة، التي لا يمكن لمن جاء إلى هنا أن ينسى تلك اللحظات، ولا يمكن لمن لم يستطع أن يأتي إلى هنا إلا أن يلبي دعوة أبينا إبراهيم للناس بالحج على مر العصور، فيأتي الناس أفرادًا وجماعات؛ يبرّح الشوق بمن لم يذق، وتضج الأفئدة بالحنين بمن أتى وذاق، ويحذوه الأمل بالعودة.
وابتسم وهو يقول لي: هذه رحلتي الأولى إلى الأراضي المقدسة، وقد تجاوزتُ الستين بسنوات. عشر ساعات قضيناها أنا وزوجتي منذ غادرنا بلادنا حتى وصلنا إلى مكة، مرورًا بجدة، لم يستطع سلطان النوم أن يفرض قانونه على أجسادنا، ولم يغمض لنا جفن؛ أرضًا وفضاءً، فحافلات وتضاريس جغرافية تأخذ بالأبصار، حتى وصلنا… وأحسسنا بنشاط غريب يدبّ في أوصالنا ونحن نقطع الطريق لنصل إلى أرض الحرم، بفنائه المترامي، ومئات الآلاف من الحجاج يتحركون هنا وهناك، من ساحته إلى داخله.
يا الله… يا الله! ها نحن نخطو خطواتنا الأولى، سائلين مستفسرين من أفراد الشرطة الكرام ورجال تنظيم الحشود وتحركاتها عن الباب المؤدي إلى الكعبة وصحنها للطواف، ليرد علينا أحد رجال الشرطة بكل ود وترحاب: “باب الملك عبدالعزيز إلى الكعبة مباشرة، يا حاج”.
وانطلقت قلوبنا نحو الباب طائرة قبل الأقدام… لبيك اللهم لبيك، اللهم زد هذا البيت تعظيمًا وتشريفًا. ها هي الكعبة إذن، وها هم الطائفون يتلاحمون في بداية طوافهم وأشواطهم واقترابهم من حجرها الأسود وجدرانها السامقة، التي ترتكز وسط الأرض بعمود ضياء يهبط من سماوات الخالق ليثبّت الأرض ويرسّخ استقرارها…
شهقت زوجتي بدموع الفرح، وقد تحقق الحلم الذي عاشت عبر سنوات طوال تتمناه وتطلبه وتسعد بقربه، وتتألم كلما فاتت فرصة تحقيقه…
انغمسنا وسط الأمواج الهادرة من الطائفين حول البيت الحرام، الذي طالما هفت قلوبنا لملامسته وتقبيل ركنه الأسعد. وقفزت منا الأفئدة سابقةً الأيدي والأقدام نحوه، وسط أفواج الناس الذين أتوا من كل فج عميق، ملبّين النداء: أبيضهم، وأسودهم، وأصفرهم، وأشقرهم، وأحمرهم، وأسمرهم…
وكانت أول نظرة، وأول لمسة للبيت الحرام، مغلّفة بأجمل مشاعر الحب والراحة والمتعة النفسية… وما أجملها من مشاعر!
“الحمد لله، والشكر لله”، اختتم بها ذلك الحاج حديثه… والحمد لله، ثم الشكر لحكومة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمين -حفظهما الله-، يقولها كل ضيوف الرحمن الذين وفّرت لهم بلادنا الغالية كل الإمكانيات، وأفضل الخدمات، رغبةً في المثوبة والرضا من المولى عز وجل، مع التأكيد على أن خدمة الحجيج “شرف لا يدانيه شرف”، لكل فرد من أبناء مكة المكرمة والمدينة المنورة، بل من أبناء الوطن كافة.
والحمد لله، فقد تمكّنت كافة الجهات المشاركة في مهام الحج من تنفيذ الخطط الأمنية والوقائية والتنظيمية والصحية والخدمية والمرورية بدقّة عالية، وانسيابية سلسة. وتمت كل مراحل الحج في كافة مناطق المشاعر المقدسة براحة تامة، مع توفير كل الخدمات لما يقارب مليوني حاج، بأعلى معايير الجودة.
والحمد لله، واصل “برنامج خدمة ضيوف الرحمن” لتطوير منظومة خدمة الحجيج نجاحه، حيث أتاح للحجاج القادمين من الداخل والخارج مرافق ذات جودة عالية، وبنية تحتية متقدمة، وخدمات رقمية، تساعد الجميع على أن ينعموا بتجربة إيمانية مميزة لا تُنسى. وأثبت نجاحه في إثراء تجربة ضيوف الرحمن طوال فترة وجودهم بالمملكة، بدءًا من “مبادرة طريق مكة”، مرورًا بـ”مبادرة التأمين الصحي”، و”حج بلا حقيبة”، ومشروع “حافلات مكة”، وخدمة النقل الترددي في المدينة المنورة، والارتقاء بجودة الخدمات والمرافق، وصولاً إلى إثراء التجربة الثقافية الإسلامية، واكتشاف المملكة والتعرّف عليها.
كما ساهم البرنامج في الارتقاء بتجربة ضيوف الرحمن من خلال التيسير والتسهيل للملايين منهم لأداء مناسكهم، حيث يسعى البرنامج لتحقيق هدف “رؤية المملكة 2030” بتمكين أكبر عدد من المسلمين من أداء فريضة الحج ومناسك العمرة، عبر تطوير الكوادر البشرية وتأهيل البنية التحتية، لتحقيق هدف البرنامج برفع جاهزية المملكة لاستضافة 30 مليون حاج ومعتمر بحلول عام 2030، وذلك من خلال شراكات فاعلة مع القطاع الحكومي، والخاص، وغير الربحي، مما يسهم في تعزيز مكانة المملكة كوجهة يقصدها المسلمون من شتى بقاع الأرض.
وبعد، فإن نجاح موسم الحج سنويًا هو شهادة دولية على قدرة الإنسان السعودي، بالتخطيط والإرادة، على تنظيم أكبر التجمعات البشرية بسلام وطمأنينة، ويقدم للعالم نموذجًا ناجحًا في إدارة الحشود.