السياسة

تفكيك ما تبقى من مقومات الحياة.. إستراتيجية الاحتلال.. من تدمير الأنفاق إلى خنق قطاع غزة

البلاد – غزة
تواصل إسرائيل تنفيذ استراتيجية ممنهجة تستهدف تفكيك ما تبقى من مقومات الحياة في قطاع غزة، ضمن سياسة يُمكن وصفها بمحاولة “الخنق الكامل” للمنطقة، سواء عبر العمليات العسكرية المباشرة أو عبر الحصار المشدد الذي فُرض منذ استئناف القتال في مارس 2025.
وفي أحدث مؤشر على هذه السياسة، أعلن الجيش الإسرائيلي عن تدمير نفق بطول 700 متر وعلى عمق 30 متراً، زاعماً استخدامه لأغراض “إرهابية”، في إطار ما يصفه بـ”عملية القضاء على البنية التحتية لحماس”، لكن خلف هذه التصريحات، يتضح أن الهدف يتجاوز بكثير مجرد استهداف قدرات عسكرية لحركة حماس. إذ تؤكد الوقائع الميدانية أن إسرائيل تسعى إلى إضعاف أي شكل من أشكال الحوكمة في غزة، من خلال استهداف شامل للبنية التحتية، واغتيال الكوادر، وإغراق القطاع في فوضى أمنية واقتصادية واجتماعية.
وتشير تقارير متعددة إلى أن حماس فقدت السيطرة على أجزاء من القطاع، في ظل تفشي حالة من الانفلات الأمني، وانتشار عمليات السطو والنهب على شاحنات المساعدات والمنازل، وتنامي نفوذ جماعات متطرفة جديدة. ومع تعطل المؤسسات الحكومية وتوقف دفع الرواتب، تتآكل قدرة الحركة على إدارة القطاع، مما يُضعف موقفها التفاوضي ويزيد الضغط الداخلي عليها.
هذه الفوضى ليست نتيجة عَرَضية للحرب، بل تبدو جزءاً من نهج إسرائيلي يقوم على استخدام الانهيار الاجتماعي كأداة سياسية، فكلما تفاقمت معاناة السكان، ازدادت فرص تل أبيب في فرض شروطها السياسية والعسكرية.
في سياق موازٍ، يعاني القطاع من حصار خانق دخل شهره الثالث، مع منع دخول الإمدادات الأساسية من الغذاء والدواء والمياه. ورغم وعود بإيصال المساعدات، إلا أن التقارير الأممية تكشف أن ما دخل فعلياً لا يغطي سوى 9% فقط من الاحتياجات الإنسانية الأساسية لأكثر من مليوني إنسان. ويبدو واضحاً أن إسرائيل تستخدم هذا النقص كوسيلة ضغط اقتصادي وإنساني لتحقيق مكاسب سياسية.
المشهد الإنساني يزداد قتامة، فالمجاعة تزداد انتشاراً، والنظام الصحي على وشك الانهيار، ومصادر المياه ملوثة بشكل واسع. هذا الواقع لا ينفصل عن الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية التي باتت ترى في التجويع والعطش وسائل “فعالة” لفرض شروط الاستسلام.
من الناحية العملياتية، تستمر إسرائيل في عملياتها العسكرية شمالاً وجنوباً ضمن حملة برية موسعة أطلقت عليها اسم “عربات جدعون”، والتي تهدف وفق الخطاب الرسمي إلى “القضاء على حماس وتحرير الرهائن”. لكن على الأرض، تُظهر الإجراءات أن الهدف الحقيقي هو تفكيك البنية الاجتماعية والاقتصادية لغزة، وخلق واقع جديد يجعل من المستحيل لحماس أو أي كيان مقاوم أن يعيد بناء نفوذه.
وبينما تعاني المنظمات الدولية مثل “الأونروا” من عراقيل ممنهجة في إيصال المساعدات أو حتى الحفاظ على بنيتها التشغيلية، فإن إسرائيل تسعى لخلق فراغ إنساني وسياسي يُمكن ملؤه لاحقاً بشروطها وحدها.
ما يجري في غزة ليس مجرد صراع عسكري تقليدي، بل هو عملية مركبة تسعى إسرائيل من خلالها إلى إعادة صياغة الواقع السياسي والسكاني للقطاع. الحصار، التجويع، تفكيك الحكم المحلي، ونشر الفوضى ليست أدوات عرضية، بل عناصر مركزية في استراتيجية إسرائيل الهادفة إلى “إخضاع غزة” بالكامل عبر سياسات الخنق المتدرج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *