لم تقتصر مصادر تعلّمي على كتب التربية ومراجعها فقط، فقد اطلعتُ على العديد من الدراسات، ودرستُ في مراحل دراسية وأكاديمية متعددة، غير أن جوهر التربية لم يتجلَّ لي بالكامل إلا عندما عشتُها واقعًا ملموسًا، وتنفَّستُ أجواءها في الميدان، وعايشتُ تفاصيلها بين جدران الفصول الدراسية وقاعات الجامعة، وعلى وجوه الطلاب المختلفة، وفي تفاعل المعلمين وأولياء الأمور، وفي كل نواحي الحياة التعليمية التي تتجاوز حدود النظريات لتصل إلى الإنسان بكل أبعاده، وأبعاده الإنسانية.
في بداية مسيرتي، كنت أظن –كما يظن كثيرون– أن التدريس يقتصر على نقل المعرفة، وأن النجاح يتحقق بإيصال المعلومة بوضوح ودقة. غير أن تجربتي علمتني أن التربية ليست مجرد كلمات تُقال، أو معلومات تُلقّن، بل هي علاقة إنسانية عميقة، ورسالة سامية، ومسؤولية تتجاوز حدود المنهج والسبورة.
أول درس تعلمته في هذا المضمار لم يكن من أستاذ جامعي، بل من طلاب أول فصل دراسي قمت بتدريسه في مدرسة نائية، حيث كنت حديث العهد بالتدريس، متحمسًا، أحمل أوراق التحضير ودفتر تقويم الطلاب، وأحاول تطبيق ما تعلمته في مقرر “طرق التدريس”. وبينما كنت أشرح بحماس أمام الطلاب، رفعتُ عيني لأجد نصفهم منشغل عنيّ، وبعضهم لا ينظر إليّ، وبعضهم يستند برأسه على الطاولة، ما أثار في نفسي شعورًا بالخذلان، وربما بالغضب. بعد انتهاء الحصة، استشرت أحد معلمي المدرسة المخضرمين، فأجابني بهدوء: “بعض هؤلاء الطلاب يقطعون أكثر من ساعة مشيًا على الأقدام في برد قارس كل صباح، وبعضهم يخرج من منزله قبل أن يتناول وجبة الإفطار، فهل تعتقد أن تركيزهم سيكون محصورًا في طريقة شرحك؟”
كانت تلك لحظة تأمل عميق وصمت داخلي مديد، أدركت خلالها أن التربية لا تنبع من المنهج وحده، بل من الواقع المعاش، وأن نجاحها مرهون بمدى استجابتنا لظروف من نعلمهم، وعندئذ فقط بدأ يتضح لي أن التعليم ليس مجرد عملية نقل للمعلومات، بل هو حضور إنساني عميق وفاعل، وإذا غابت هذه الحضور فلا قيمة ولا جدوى لأي وسيلة تربوية مهما كانت.
وعلى مدى سنوات، خضت تجربة أزعم أنه قد تكون غنيّة في ميادين التربية والتعليم، فلقد درّست في مدارس داخل المملكة وخارجها، وعملت مشرفًا تربويًا، ثم انتقلت للعمل الأكاديمي في الجامعة أستاذًا جامعيًّا. وأقول هذا، ليس من باب الاستعراض، وليس من باب التباهي، بل من باب التأكيد على أن كل مرحلة من هذه الرحلة كانت مدرسة مستقلة، علمتني من الدروس ما لم يكن لي أن أتعلمه من المقررات وحدها.
في التعليم العام، عرفت أن الطالب لا يحتاج فقط إلى معرفة، بل إلى قدوة ومُلهم. وفي الإشراف التربوي، أدركت أن الدعم الحقيقي للمعلمين لا يكون بالأوامر، بل بالاستماع، والتحفيز، والمرافقة المهنية الصادقة. وفي التعليم الجامعي، تعمّقت رؤيتي للتربية كفكر، ونظرية، ومنهج، لكنها بقيت دومًا مرتبطة بالحياة.
علّمني الواقع أن التربية فعلٌ أخلاقي قبل أن تكون إجراءً تدريسيًا، وأن قيمة المعلم لا تُقاس بدرجات طلابه فحسب، بل بقدرته على بناء الإنسان. وكلما ازدادت خبرتي، كلما أدركت أن المربّي الجيد هو من يربّي نفسه قبل أن يربّي غيره.
ولا أنسى أن ثقافتنا الإسلامية كانت دومًا منجمًا ثريًا للمفاهيم التربوية العميقة، التي تجعل من الرحمة والعدل والصبر والتزكية أُسسًا لا غنى عنها في التعامل مع النشء. فكيف نعلّم أبناءنا القيم إن لم نكن نحن قدوة فيها؟ وكيف نغرس الاحترام، ونحن نفتقد لغة الحوار؟ كيف نطلب من طلابنا أن يثقوا بأنفسهم، ونحن لا نمنحهم مساحة للتعبير؟
إنني أكتب هذه الكلمات اليوم، وأنا أؤمن أن التربية ليست مهنة فحسب، بل هي رسالة ممتدة، وتعلّمٌ لا ينتهي. لا أدّعي الكمال، لكنني أزعم أن كل يوم في حياتي المهنية كان يضيف لبنة جديدة في بنائي التربوي، وكل طالب مرّ بي كان معلمًا بطريقة ما.
وهكذا تعلّمت التربية: من الحياة، ومن المواقف، ومن الميدان، ومن الناس. وما زلت أتعلم.ـ
*أستاذ علم النفس بالجامعة الإسلامية
al_mosaily @