مقالات الكتاب

فريضة

قبل عشر سنوات أو أكثر، توفي صديق لي. ووقعت تركته في يدي لكي أبلغها إلى مستحقيها وهم أخت وثلاثة أولاد أخ. وكان نصيب الأخت النصف والباقي يقسم بالتساوي على أولاد الأخ الثلاثة. ولكن أحد هؤلاء واسمه جبل رفض استلام المبلغ زاعما أنه مال مشبوه. وهو مخطئ في ذلك تماما. وحتى لو قبلنا كلام جبل، فإن الميت يتحمل الإثم ولا دخل للوارث في مكسب المرحوم عمه من حلال أو حرام. وقد أبلغناه أن هذه المبلغ أصبح ملكا لك شئت أم أبيت. وبعد أن تتسلمه فأنت حر في أن تتصرف فيه أو تتصدق به. وانتهى بي التفكير إلى حل مناسب وهو إعطاء المبلغ لعمته وهي تتولى إقناع جبل باستلامه. هداك الله يا جبل.
إن علم الفرائض ليس سهلا وقد ورد أنه أول علم يرفع من الأرض. قال صاحب الرحبية:
بأنه أول علم يُفقدُ حتى لا يكاد يوجدُ
ومع أنه جاء في ست آيات من سورة النساء، إلا أنه متشعب جدا.
وقبل بضع سنوات، زرت مكتبة الحرم المدني بالمدينة المنورة وهي عامرة بعشرات الألوف من الكتب في مختلف المجالات والتخصصات. فإذا لم يكن على بالك كتاب معين، فسوف تقع في حيرة شديدة. لكني صممت على الاستفادة من الوقت دون تضييعه في المفاضلة، فاخترت أقرب كتاب وكان عنوانه “سير أعلام النبلاء” للذهبي وفيه طالعت قصة الفقيه التابعي عامر الشعبي الذي خرج على الحجاج الثقفي والي العراق، وانتهى به الأمر أسيرا في معسكر الحجاج.
ولما مثل الشعبي بين يدي الحجاج عاتبه عتابا شديدا. وقص الشعبي ما دار بينه وبين الحجاج. قال: أحتاج إلى فريضة. قلت: سل. قال: ما تقول في أخت وأم وجد؟ قلت: اختلف فيها خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وزيد وابن مسعود وعلي وابن عباس. قال: فما قال فيها ابن عباس إن كان لمنقبا؟ قلت: جعل الجد أبا وأعطى الأم الثلث ولم يعط الأخت شيئا. قال: فما قال فيها أمير المؤمنين؟ يقصد عثمان. قلت: جعلها أثلاثا. قال: فما قال فيها زيد؟ قلت: جعلها من تسعة فأعطى الأم ثلاثا وأعطى الجد أربعا وأعطى الأخت سهمين. قال: فما قال فيها ابن مسعود. قلت: جعلها من ستة أعطى الأخت ثلاثا وأعطى الأم سهما وأعطى الجد سهمين. قال: فما قال فيها أبو تراب؟ قلت: جعلها من ستة فأعطى الأخت ثلاثا والأم سهمين والجد سهما. قال: مُر القاضي فليُمضها على ما أمضاها أمير المؤمنين عثمان.
هذا مثال من علم الفرائض. كلهم اجتهدوا وكلهم رضي الله عنهم على صواب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *