مقالات الكتاب

بريد الهوى

منذ فجر التاريخ، لم يصف شاعر من شعراء العرب نقيق الضفادع، كما وصفه الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري حين يقول:
سلام على جاعلات النقيق على الشاطئين بريد الهوى
ونحن عندما نحتج على من يتجادلون بصوت عال مزعج، نقول: كفوا فضلًا عن النقيق. ومن يعش بالقرب من بركة أو بئر ماء، ويسمع النقيق خصوصًا آخر الليل، لا يستطيع النوم. ولكن سكان بغداد على صفتي دجلة، أو القاهرة على نهر النيل لا بد وأنهم تعودوا على الضجيج. وكنت أفكر في حفر بئر في منزلي غير أني عدلت عن هذه الفكرة، فلا بد من تصاريح عديدة من هنا وهناك. ثم إذا جازفت وحفرت بئرًا، ثم عسكر في منزلي حشد من الضفادع، فمن الذي سيخلصني من نقيقها. ولا تسمح نفسي بقتل هذا المخلوق البرمائي المسكين، وأذكر أني زرت مدرسة متوسطة بجدة، فلما جاءت الفسحة لصلاة الظهر دخل الطلبة المراهقون في ضجيج. وواصلوا نقيقهم بعد إقامة الصلاة إلى أن هوى الإمام راكعًا فلحقوا به.
ولم يقصد نجيب محفوظ نقيق الضفادع، حين كتب روايته الشهيرة العجيبة( ثرثرة فوق النيل) مع أن الثرثرة هي نقيق بشري فريد. ولو كان هذا النقيق مفيدًا، لما سمي ثرثرة. والإنسان بلا جدال هو الأكثر ثرثرة على وجد البسيطة. ولم نسمع أن جنس الجِمال أو جنس الفيلة يثرثرون، رغم أن لكل جنس من المخلوقات شفرته أو لغته الخاصة في التفاهم مع أفراد بني جنسه.
ولما رأى لقمان الحكيم درع الحديد، الذي صنعه داود- عليه السلام- أراد أن يسأل ما هذا، لكنه فضل الصمت، فما لبث داود أن قال: نعم لباس الحرب هذا. فقال لقمان بعد أن عرف الجواب: الصمت حكمة وقليل فاعله.
وقد عرفت الأستاذ محمد صلاح الدين الكاتب المعروف في جريدة الندوة، ثم في جريدة المدينة. كان- رحمه الله- يحضر بعض المجالس، أو الديوانيات؛ مثل الخميسية أو الثلوثية، وكان قليل الكلام. وكان عموده اليومي (الفلك يدور) عامرًا بالفائدة والجدة. وقد سمعت أنه هو الذي كلف بصياغة بيان مؤتمر القمة الإسلامي بجدة عام 1981م.
أما الحكمة المعروفة: إذا كان الكلام من فضة، فإن السكوت من ذهب، فإنها تعني السكوت في موضعه، والكلام في موضعه. أو بعبارة أخرى، السكوت الحسن والكلام الحسن. قال تعالى:” يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا”. وقال النبي- صلى الله عليه وسلم:” إن الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال”.
لقد توفي الشاعر الجواهري عام 1997م، وعاش مع قفزات التواصل من تلفون السنترال العام إلى تلفون المقبض إلى البيجر، ولو رأى ما نحن فيه بعد القفزة إلى عصر الجوال، لقال: هذا بريد الفوضى، لا بريد الهوى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *