اجتماعية مقالات الكتاب

مدرسة الفلاح.. والحنين لأيام مضت

قادته خطواته ذات لحظة حنين إلى الماضي وذكرياته، إلى المرور عبر طرقات أحياء جدة القديمة التي شكّلت شخصيته وحياته، مرّ في طريقه بمدرسة الفلاح الابتدائية ألتي تعلَّم فيها، وما إن وقف أمام بوابتها، حتّى تواردت على مخيلته ذكريات ظنّ أنها أصبحت طي النسيان، وتأكد لحظتها أن للأمكنه تفاصيل في الذاكرة، لاتمحى مهّما مرَّت عليها أمواج السنين، وداخله شعور وهو يتلمّس بوابة المدرسة العتيقة، أنها تسأله أين أنت ياصغيري، وماذا فعلت بك الحياة ؟ قال وهو يخاطب نفسه: وأين هم زملائي الذين كانت تضجّ بهم ساحات المدرسة وفصولها التي تخفق لها نبضات قلوبهم، وترتسم على جدرانها الكثير من حكاياتهم، تلك الحكايات التي شكَّلت شخصيات كل الذين درسوا بها، وارتبطوا بكل تفاصيلها، عبر أجيال وأجيال ممّن غادروا مقاعدها الدراسية، إلا أن كل واحد منهم يعاوده الحنين إلى أيام مضت مليئة ببهجة الطفولة، وعنفوان الشباب، وبساطة الحياة.
سرح بعيداً وهو يتذكر لحظات الفرح الطفولي ألتي فاضت به وغمرته في أول يوم يذهب فيه إلى مدرسة
الفلاح، وهو يقف بين يدي أمه لتضبط على جسده الثوب السماوي الجديد الذي قام بتفصيله عم غزولي الخيَّاط، وتطوي الطاقية على هيئة كيس، وتدخلها على رأسه حتى غطت أذنية، وتطبق يديه على حقيبة القماش بلونها البني، وقد دست بداخلها جزء عم ومرسمة ودفتر ابوعشرين، وهي توصيه قائلة لاتدع أحداً يأخذها منك، ولاتدعها تسقط منك على الأرض ، ثم استدارت نحو أخيه الكبير وهي تدسّ في يدة ثمانية قروش، وتقول له: توكلوا على الله، انتبه على “اخوك” ، ودعه يأكل معك في الفسحة الكبيرة ولا تتأخرا في العودة، وبقيت واقفه على باب البيت تلوِّح لهما بيدها، وتدعو، بينما مضى هو وأخوه مسرعيْن نحو مدرسة الفلاح الابتدائية القريبة من الحارة.
بصحبة أبيهما في الطريق، راح يحدث نفسه قائلاً: انتهت أيام اللعب، ولم يعد هناك وقت للتسكع مع الأصحاب ولعب الّلب والبرجوه.
وصلا إلى المدرسة وقد امتلأ حوشها الواسع بعشرات من التلاميذ ، أدخله أبوه حوش المدرسة وغادر،وحين أغلق باب الحوش، ذابت الفرحة وبدأ البكاء، ولكن سرعان ما اندمج مع التلاميذ، الذين وقف في وسطهم إثنان من الرجال عرف فيما بعد أن أحدهما هو وكيل المدرسة، والآخر هو المراقب الذي كان يحمل بيده عصا نحيفة يلوح بها وهو يصيح في الأولاد ليصطفوا في طوابير كل حسب السنة الدراسية.
انفلتت يد أخيه منه وهو يجري نحو صفِّه ويقول له: مكانك هناك مع المستجدين نلتقي في الفسحة الكبيرة. ودخل هو في زحام الأولاد المستجدين، وهم يتدافعون فرحين بأول يوم لهم في المدرسه. وفي الفصل، تلقى أول ضربة بالعصا؛ لأنه لم يردد بصوت عال ماكان يتلوه عليهم المعلم من قصار السور.وتلقى من مدرس آخر كلمة:{ شاطر} لأنه استطاع أن يعد من واحد إلى العشرة بدون أن يخطئ، وحين عاد من المدرسة إلى البيت، جلس يحكي لأخواته وأمه وهي تعدّ لهم طعام الغداء، مامرّ عليه من أحداث ذلك اليوم، ومرّت الأيام، وانتقل بعدها إلى السنة الثانية ثم الثالثة وكبرت معه حقيبته الجلدية واكتظت بما في داخلها من كتب ودفاتر ومراسم، وبدأ يتعود على الأوامر والنواهي والتحذيرات، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يدسّ بين كتبه ودفاتره مجلة سمير التي كان يحرص على شرائها من مكتبة{ القلم } القريبة من المدرسة بما يتبقى عنده من مصروف المدرسة.
ما أجمل مدرسة الفلاح التي تتربع في قلوب من درسوا فيها قبل أن تتربع في عمق أحياء جدة التاريخية، باعتبارها أول مدرسة نظامية في الجزيرة العربية تشهد على عظيم صنيع ما قام به الحاج محمد علي رضا زينل في سبيل إنشائها في عام 1905 لنشر التعليم في بلاد الحرمين، كما تشهد على عظيم صنيع زوجته السيدة خديجة عبد الله زينل، إبنة عمه التي بادرت ببيع حليها ومصاغها لشراء مبنى المدرسة بعد أن تعثر التمويل فكانت مضرب المثل في الوفاء والتضحية وبذل الخير -رحمهما الله رحمة واسعة- غادر المكان وأشعة الشمس تلقي بضوئها على الطرقات التي يخيِّم عليها صمت يحتضن كل شيء.
تحول الصمت إلى نوع من النجوى. كان يرقب الظل من خلفه وهو يغادر المكان. أكمل سيره لايعرف إلى أين ، يحمل بين طيات قلبه سكونا ، يتمتم ببعض الأدعية ، مشى قليلاً وذاب مع حركة الناس التي لاتنتهي، لم يكن يعرف أن لأزقة الحواري القديمة أشواقاً وأن لها قلوباً تحنّ حين يمشي الناس عليها وتتذكر أشخاصاً عاشوا بين جنباتها لحظات مليئة بالفرح والحزن أحيانا!
كان يسير في الزقاق الذي يقع على ناصيته بيتهم القديم مثقلاً بوهج الذكريات: هذه زاوية أبو عنبة المسجد الصغير الذي تستريح على أطرافه ومن حوله بيوت الحارة التي تنام بعد صلاة العشاء مباشرة ولاتسهر سوى {الاتاريك }باضوائها المرتعشة ورجال العسس الذين تعلن صفاراتهم ونداءاتهم عن وجودهم، يمضي وحده يمعن التذكر ويستحضر الذي كان: هذا هو بيتهم وهذا الطابق الأول وهذه نوافذه، نعم إنها موصودة الآن ، ولكنها ستفتح لتطلّ أمه بوجهها الحبيب مثلما كآنت تفعل في ذلك الزمن البعيد لتتفقد أخباره وهو يلعب مع أطفال الحارة، وبعد آذان المغرب حين تكبر مساحات العتمة، وينشر الليل رداءه، وتطوي الشمس أطراف ثوبها، وتغادر، يصعد هو وإخوته إلى سطح البيت ويلتفون حول [ جدتهم ] وهي تحكي لهم تحت السماء الصافية والنجوم السارية تفيض بأنوارها على الكون.، «حكاويها» القديمة. وتقصّ عليهم حكايات ست البنات، وتحملهم معها إلى عوالم بعيدة، وهم يحلقون معها، ويهبطون مع حبكتها الدرامية.
كانت تلك الحكايات، البذرة التي زرعت في وجدانه حُب القراءة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *