شاهدت في يفاعتي حجري الرحى، وعندهما امرأة تطحن الحب كي يتحول إلى دقيق فتعجنه ثم تخبزه لزوجها وأولادها. وفي الرحى العليا عصا أو عمود الرحى، تمسكها المرأة لكي يدور الحجر الأعلى على الحجر الأسفل أثناء الطحن. لكن لو أن عروساً جديدة دخلت البيت، وبعد انتهاء تقاليد العرس وأفراحه، ذهبت إلى دهليز الرحى، وسكبت الحَب في فتحة وسطى، وحالما بدأت الطحن، انكسر العمود في يدها. وهي وحيدة في المنزل إذ غادر زوجها إلى عمله. فهنا ابتكار جديد صنعه أجدادنا قبل اختراع الهاتف أو الجوال. فالمرأة في بيتها لا تسمح ظروفها أو تقاليد المجتمع بخروجها، فهي تعلق طرحتها أو خمارها على الشباك من الخارج. وتفتح أمها شباكها في منزلها لتطمئن على ابنتها فإذا رأت الخمار معلقاً، تدرك أن البنت بحاجة لمن يحل مشكلة عندها. فيأتي أبوها أو أحد محارمها لتقول له ما تريد.
هذا على المستوى الفردي، فماذا عن البلاغات العامة مثل دخول شهر الصوم، أو رؤية هلال عيد الفطر، أو وفاة الخليفة، وتعيين خليفة جديد في دمشق خلال حكم الأمويين، أو بغداد أثناء حكم بني العباس، أوالخليفة الأندلسي في قرطبة. هنا يأتي دور المنارات وهي التي صمّمت لرفع الأذان. فعندما يحدث أمر جلل، يأمر الحاكم برفع سراج فوق أعلى منارة، كي تراه القرى القريبة، وفي الوقت نفسه يمتطي فارس، أو أكثر من فارس، فيتجه بأقصى سرعة الخيل إلى المدينة، أو القرية القريبة، وحالما يراه الرجل الموكل بالطبل، يجري إلى الساحة العامة، ويقرع الطبل بكل قوة، ليتجمع الناس شبابا وشيبا، فيقول لهم الفارس: ليبلغ الشاهد الغائب فقد ثبتت رؤية الهلال الليلة وعليكم فرض صيام رمضان. أو مات الخليفة وأصبح خليفتكم فلان فادعوا له. وهناك رجل مكلف برفع السراج على أعلى منارة، من أجل إبلاغ القرى الشرقية،أو الغربية، وأيضا فارس، أو أكثر من فارس، قد تجهزوا حالما رأوا النور يضيء من منارة العاصمة. وعند سماع الخبر، ينطلق الفارس بأقصى سرعة الخيل وأظنها 70 كيلو مترا في الساعة. أما الفارس الأول فيعود على مهل بعد أدى المهمة،وبعد أن ارتاح حصانه وشرب الماء وأخذ العلف المعدّ سلفا له على حساب الحكومة. وتبدأ المدن الشرقية أو الغربية بالاستعداد لاستقبال الخبر الهام بالأنوار على مناراتها، والطبول في ساحاتها، والخيول المسرجة والفرسان على أهبة الاستعداد للانطلاق العاجل كمثل الريح إلى المشرق أو المغرب.
وقد صفق الملك جيمس ملك المملكة المتحدة بريطانيا وايرلندة تصفيقا طويلا عندما علم باغتيال ابراهام لينكولن عام 1865م (رئيس أمريكا، المستعمرة البريطانية سابقاً) متعجبا كيف لم يعلم بهذا الخبر الجلل العظيم إلا بعد مرور 11 يوماً على حدوثه. أما في حضارتنا فإن المعلومة الهامة قبل اختراع الهاتف أو الجوال ما كانت تتأخر عن 48 ساعة في أبعد مدينة.