العمود الصحفي من وجهة نظري ليس له علاقة بالطب ولا بالفلك ولا بالرياضيات ولا بالهندسة ولا بالفيزياء ولا بالكيمياء ولا بالأحياء ولا بالفقه ولا بالجغرافيا، دعك عن السياسة والاقتصاد.
العمود الصحفي فيه شي من الأدب والاجتماع والفلسفة والرياضة.
الأدب، أحيانا يقل أدبه عند بعض القراء، وبعضهم يرتاح له. وللناس فيما يعشقون مذاهب. فيحكي لك الكاتب حكايات ليست من صنع خياله، بل ربما عايشها بين أولاده أو مع جيرانه أو عند فيلسوف كبير أو عند الجزار أو بائع الخضروات. لا يستطيع الكاتب أن يهرب من مجتمعه ولا من ثقافة عصره.
هذا بشار بن برد كتب بيتين من الشعر يقول فيهما:
ربابة ربة البيت
تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات
وديك حسن الصوت
ولما قيل له: ما هذا الشعر يا بشار؟ قال: هذا في أذن الشغالة في بيتي، وهي أمية أحلى عندها من قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلِ
بسِقط اللوى بين الدخول فحوملِ
وليس اندماج الكاتب في المجتمع معناه أن يرسم رسوما بيانية عن نسبة الطلاق في الوقت الحاضر ونسبتها عندما تزوج أبوه أمه، لكنه ربما حضر حفلة من الحفلات فيقتنص منها، مثلاً: غيرة الشاعر الفلاني من صديقه الذي أكل الجو عليه. فيقول: والله إن شعري أفضل من شعره، لكنه حسن الإلقاء، والإلقاء موهبة تحول السكر إلى عسل، وأحيانا تشتدّ الغيرة، فيقوم كاتب مثل عباس العقاد بتمزيق شيك جاءه من إحدى الجرائد لأن المطربة الفلانية تكسب عشرة أضعافه في سهرة في ليلة واحدة.
وهذا بيت القصيد: أن يكتب صاحب العمود الصحفي كلاماً فيه قليل من الفائدة العلمية، أو التاريخية، لكنه سلس وممتع. قد تجد التحليل القوي عند الفيلسوف عبد الرحمن بدوي، لكن الدكتور زكي نجيب محمود، أسهل وأسلس في تبسيط المفاهيم الفلسفية. وبينهما أحمد أمين الذي كتب مبادئ الفلسفة، وكتب أيضا عدة كتب فاخرة منها: (فجر الإسلام) و(ضحى الإسلام) و(ظهر الإسلام.)
بقيت الرياضة: هذا هو الفن الذي اجتذب الملايين. لا حظ أن الرياضة فن وليست علماً. العلم هو وصف ما يكون، أما الفن فهو كيف ينبغي أن يكون. الطب علم والتشريح فن. تسأل رجلا عجوزاً: ما الذي يحببك في كرة القدم؟ فيقول لك: كيفية نقل الأقدام للكرة قبل الوصول إلى المرمى. وكنا في الماضي لا نهتم إلا بركل الكرة إلى الأمام، أوعلى الأقل نمنع الفريق الخصم من التهديف علينا. وقد غضب توفيق الحكيم من الحكومة والمجتمع، لأن حرفة القدم أغلى من حرفة القلم أضعافا مضاعفة.
لقد حاولت تقليد أنيس منصور هنا إذ أني أعيش مع كتابه :”في صالون العقاد كانت لنا أيام”. وقد أهداه إلى زوجته.