لا شك أن ليلة “عبد الوهاب” الغنائية التي أقامتها هيئة الترفيه، كانت واحدة من الليالي الفنية الجميلة، حيث تألق أكثر من 150 عازفًا، وبرع نخبة من الفنانين العرب في أداء أغاني موسيقارالأجيال محمد عبد الوهاب، كان التحدي أمام أصواتهم وغنائهم بالإضافة إلى التوزيع الموسيقي الذي فرض نفسه على الأوركسترا بتنوع آلاتها وبإبداع عازفيها، ممّا أضاف أبعادًا جديدة بفضل تقنيات الصوت والإمكانات المبهرة التي وفرها مسرح “أبو بكر سالم”.
وبالرغم من ذلك، فإن غياب الفنان العملاق صفوان بهلوان كان ملحوظا.
كنت أرى أن تلك الليلة كانت ستزداد تألقًا لو تم تقديم عمل موسيقي كبير بتوزيع أوركسترالي هارموني شامل، بحيث يتم تحويل إحدى أغاني عبد الوهاب إلى قطعة موسيقية بحتة، تستغل فيها المهارات العالية للتوزيع الهارموني، لتعبر عن جمال الأغنية بطابع موسيقي خالص.
تذكرت في تلك الليلة مبادرة قام بها صديقي الأستاذ يعرب بالخير، مدير عام العلاقات العامة في الخطوط السعودية خلال الثمانينيات من القرن الماضي ،حيث كلَّف الموسيقار السعودي الراحل سراج عمر، بتأليف وتوزيع مقطوعات موسيقية للأغاني التراثية الحجازية، تم إذاعتها على طائرات الخطوط السعودية، وقد تركت تلك المقطوعات الموسيقية بصمة هامة في عالم التلحين والتوزيع الموسيقي الهارموني، ممّا جذب اهتمام الكثيرين من محبي الموسيقى لإقتنائها.
إن إعادة توزيع الأغاني الكلاسيكية بشكل أوركسترالي، يُعدّ خطوة مهمة في صيانة وإثراء التراث الموسيقي العربي، ونقله للأجيال الجديدة. خصوصًا في ظل التحديات التي تواجه الموسيقى التقليدية، مع تغير الأذواق، وتطور أساليب العزف، والمفاهيم الموسيقية الحديثة.
المقصود بالتوزيع الأوركسترالي ( الهارموني )، هو المزج المتقن بين الآلات الموسيقية المختلفة في توافق، بحيث يتم تركيب تكوينات نغمية رأسية متزامنة، بخلاف التكوينات اللحنية الأفقية البسيطة أو المعقّدة حسب ازدياد عدد النغمات، ممّا يضيف بعدًا دراميًا، وعمقًا للأغنية، أو القطعة الموسيقية ،ويتيح للمستمع الانغماس في اللحن، واكتشاف تفاصيله، ويتيح هذا الأسلوب للمستمعين من غير العرب، فرصة التعرف على ثقافتنا الموسيقية وتقديرها
ولتقريب فكرتي للقارئ، أدعوه للإستماع إلى أعمال المايسترو مصطفى ناجي، وسليم سحاب، في إعادة توزيع أربع أغاني لعبد الوهاب، وأم كلثوم، مثل “دعاء الشرق” ، و”على باب مصر”، إضافة إلى “موسيقى حياتي”، و”الخيام”، اللتين عزفتهما أوركسترا لندن فيلهارمونيك، وأيضا التوزيع الموسيقي للفلكلور المصري، الذي ابدع فيه المايسترو علي اسماعيل. وغيرها من الأعمال العالمية، مثل موسيقي فيلم الرسالة لمؤلفه الفرنسي موريس جار.
وفي هذه المناسبة، أود أن أُثني على رواد الموسيقى السعودية، مثل: طارق عبد الحكيم، وسراج عمر، وغازي علي، الذين حفروا في الصخر، وبذلوا جهودًا كبيرة في دراسة، وتطوير، ونشرالوعي الثقافي الموسيقي في الوطن. لذلك، أشدِّد على تشكيل لجنة لدراسة مسيرتهم، وإنجازاتهم الفنية، وتأثيرهم على الثقافة الموسيقية، ومن ثم تكريمهم بما يليق بعطائهم، وريادتهم، في هذا المجال، من خلال إنشاء صروح فنية، أو ثقافية، أو حتّى جوائز تقديرية تخلِّد أسماءهم.