ليس مقالي اليوم بصدد سرد تاريخ تأسيس وزارة الخارجية السعودية ومراحل تطورها، وسيرة من تعاقبوا عليها من وزراء وسفراء وغيرهم من موظفين بارزين في السلك الدبلوماسي السعودي، بل هو لمحة سريعة موجزة على أدائها الفعّال المشرِّف الذي تفتخر به كل سعودية وسعودي على مستوى العالمين العربي والإسلامي، وعلى مستوى العالم أجمع أيضاً.
فكلنا يدرك أنه عند استعادة الرياض عام (1902م/1319ه) وتأسيس الدولة السعودية، حدَّد المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، طيَّب الله ثراه، سياسة دولته الخارجية في بندين مهمين:
الأول: عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى.
الثاني: بالمقابل، عدم السماح لأية دولة أخرى، أيَّاً كانت، بالتدخل في شؤون الدولة السعودية.
ومنذ آنئذٍ حتى اليوم وإلى الأبد إن شاء الله، سيظل هذا الخط هو البوصلة الأساسية التي توجِّه دفَّة السياسة السعودية، ودبلوماسيتها التي تقودها وزارة الخارجية، التي أذهلت العالم بنشاطها المحموم في كل الساحات الإقليمية والعالمية على حدٍّ سواء، وبصبرها، وذكائها، وقدرتها على العمل، وقوة عزمها على الانضباط، والعمل وفق توجيه القيادة الرشيدة، دونما التفات لانفعالات الآخرين، الذين يدعمون منطقهم الركيك العاجز، بضرب الطاولة، ظنَّاً منهم أنه يجدي نفعاً في إقناع الرأي العام، بما يدَّعونه من أكاذيب، ويلفِّقونه من تُهم.
وبالمقابل، عبر تاريخها الطويل الذي أكمل اليوم قرناً إلا قليلاً، لم يجرؤ أحد، حتى أشد الأعداء لجاجةً، على تسجيل و لو موقف واحد يتيم للدبلوماسية السعودية، حرّضت فيه على فتنة، أو تآمرت فيه على دولة، أو آذت أحداً بأي شكل من الأشكال، أو التفتت لأقاويل وإشاعات هنا وهناك تهدف لتثّبيط جهدها، وإلهائها عن قضاياها الأساسية، التي تحدِّدها رسالتها السامية العظمية؛ بل على العكس تماماً، كرَّست الدبلوماسية السعودية جهدها كله لتوحيد الصف ولمّ الشمل، لاسيَّما في العالمين العربي والإسلامي، ومناصرة القضايا العربية العادلة، ورعاية حقوق الأقليات المسلمة في جميع أنحاء العالم، إضافة لسعيها الحثيث لتحقيق السلام والأمن في العالم أجمع، سعياً لتحقيق استقرار شامل أمثل، يفضي إلى حياة، يهنأ فيها الجميع بكل ما يحلم به من سبل الراحة.
وإن كان لابدّ من إشارة سريعة للإنجازات الدبلوماسية السعودية التي تذكر فتشكر لها، فلا يفوتني أن أشير بكل فخر واعتزاز إلى دعم الدبلوماسية السعودية لاستقلال الدول العربية في عهد المؤسس، حتى قبل تشكيل الوزارة بشكلها الحالي؛ بجانب مشاركتها في تأسيس هيئة الأمم المتحدة، جامعة الدول العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، هذا غير عضويتها في ذلك العدد الهائل من اللجان العربية والإسلامية التي تكرِّس جهودها لإصلاح ذات البين، ووضع حدّ للحروب الأهلية.
ولهذا، لا غرو إن كانت السعودية عبر تاريخها الطويل، هي أكثر الدول العربية والإسلامية مناصرةً للقضية الفلسطينية على جميع المستويات: السياسي، الدبلوماسي والدعم المادي، والحديث في هذا المجال يطول، فكلنا يذكر أن أكثر زيارات الملك فيصل يوم كان وزيراً للخارجية، كانت لدول المواجهة مع إسرائيل، وأحسب أنه لا أحد ينسى دفاع الفيصل المستميت عن القضية الفلسطينية، ورفضه الاعتراف بإسرائيل، ولهذا لم نكن نعجب من حديثه، ودعوته لتأسيس هيئة تمثل الفلسطينيين، وحديثه عن القضية الذي وجهه للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام 1974م، الذي يُعَدُّ أول رئيس أمريكي يزور المملكة، وكان الفيصل وقتها ولي أمر البلاد: (إن ما يحل بالشعب العربي الفلسطيني من ظلم وعدوان، لم يشهده التاريخ حتى في عصور الظلام).
ولما كان الشيء بالشيء يذكر، يستدعي هذا إلى الذاكرة حديث المؤسس الملك عبد العزيز للرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت عند لقائهما عام 1945م، عندما طلب روزفلت نصيحة الملك عبد العزيز فيما يتعلق بمشكلة اللاجئين اليهود الذين طردتهم أوروبا، جاءه رد عبد العزيز دون تردد: (عليهم العودة للعيش حيث طردوا. أما الذين تم تدمير منازلهم وليس لهم سبل للعيش في أوطانهم، فينبغي أن يمنحوا مكاناً للعيش في دول المحول التي اضطهدتهم). مضيفاً: (العرب سيختارون الموت بدلاً من تسليم أراضيهم).
هكذا كانت الدبلوماسية السعودية الهادئة الرزينة المتزنة الجادة في الوقت نفسه، تدعم الموقف العربي الموحد؛ في حين كان بعض العرب يكيل التهم للبعض الآخر، بل يتآمر عليه، ممّا أدى لانقسام الفلسطينيين بين يمين مع هذا ويسار مع ذاك؛ بل الأسوأ من هذا كله، والأدهى، والأشد مرارة: اندفاع طرف ثالث لخدمة المحتل اليهودي لأراضيهم، ودونكم كثير من الأفلام الوثائقية التي تؤكد هذا. والنتيجة: ما نراه اليوم من معاناة مؤلمة لكثير من الأبرياء من الأشقاء الفلسطينيين في غزة والضفة على حدٍّ سواء، بل امتد الأذى ليطال أولئك الذين في المخيمات أيضاً.
ولما كانت القضية الفلسطينية هي قضية السعودية الأولى، كما يؤكد قادتنا الكرام البررة على الدوام، كان بدهياً أن تحظى بوقت أطول من دبلوماسيتها النشطة الفعالة، فها هو الراحل الكبير الأمير سعود الفيصل، عميد السلك الدبلوماسي السعودي العربي، الذي كان أحد أهم الوجوه السياسية الدبلوماسية في العصر الحديث، وله جهود كثيرة مذكورة مشكورة من أجل تحقيق السلام في العالم أجمع، حظيت بتقدير كبير من أعظم زعماء العالم، يسير على نهج المؤسس ووالده الفيصل، فيحمل لواء المنافحة عن فلسطين الشقيقة في كل المحافل الدولية، حتى عندما أدركه المرض وهو يتوكأ على عصاه متحاملاً على نفسه من أجل أداء رسالة بلاده؛ إذ لم يكن للدبلوماسية السعودية أن تتخلّى و لو يوماً واحداً عن التأكيد على حق الفلسطينيين في استعادة أراضيهم المغتصبة وتأسيس دولتهم.
وتجدر الإشارة هنا إلى دور الدبلوماسية السعودية بقيادة سعود الفيصل، من أجل دعم القضية الفلسطينية في اتفاق مكة المكرمة، الذي كان أحد مهندسيه المبدعين، ومبادرة السلام العربية؛ إضافة لجهوده الدبلوماسية المتميزة في كثير من الأحداث الساخنة الجسيمة، التي كان لها تأثير كبير على المنطقة والعالم أجمع، كمؤتمر الطائف الذي كان عرَّابه، ومهندسه الأبرز، الذي أفضى في النهاية، إلى وضع حدٍّ للحرب اللبنانية الأهلية، التي ما تزال ندوبها بارزة على جسد كثير من الأشقاء اللبنانيين، أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أحداث (الخريف العربي)، الحرب العراقية – الإيرانية، حرب الخليج وغزو العراق للكويت وغير هذا من تلك الأحداث المزعجة المؤسفة، ممّا دفع سعود الفيصل للتعبير بمرارة شديدة: (للأسف الشديد: لدى العرب دولة عربية محتلة هي فلسطين، ونطالب العالم بحقنا في إنهاء الاحتلال؛ في حين أن دولة عربية تحتل دولة عربية أخرى) في إشارة لاحتلال الكويت للعراق، الذي مزَّق شمل الأمة، في حين تبذل الدبلوماسية السعودية الغالي والنفيس من أجمل لمّ الشمل العربي والإسلامي.
وبجانب عملها الدؤوب هذا، تقدم وزارة الخارجية السعودية خدمة جليلة، لتدريس منسوبي الجهات الحكومية، وتدريب ممّن لهم علاقة بالعمل الدبلوماسي، إضافة لتدريب الدبلوماسيين من الدول الخليجية والعربية والإسلامية من خلال (معهد الدراسات الدبلوماسية) الذي وجَّه الأمير سعود الفيصل بإنشائه؛ ثم تم تغيير اسمه لاحقاً ليصبح (معهد الأمير سعود الفيصل للدراسات الدبلوماسية) إثر وفاة مؤسسه تكريماً له، تأكيداً على الوفاء لأهل الإخلاص والعطاء.
وهكذا تطورت الدبلوماسية السعودية عبر قرن من تاريخها المشرق، من شُعبة سياسية في غرفتين متواضعتين، إلى واحدة من أعظم الوزارات الدبلوماسية في العالم، تضطلع بدور مهم في مناصرة القضايا العربية والإسلامية، وإرساء السلام والأمن في العالم؛ وإني على يقين أنها ستظل تؤدي دورها هذا إلى الأبد، كما هو حالها اليوم بقيادة وزيرها الذكي النشط، صاحب البديهة الحاضرة، أخي الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله آل سعود.. فإلى الأمام دوماً.