ونحن نحتفي بيومنا الوطني الـ (94) الوضاء المشرق البهي السعيد لعامنا هذا، الذي يصادف الثالث والعشرين من شهر سبتمبر، الموافق لليوم العشرين من شهر ربيع الأول 1446ه، أدعو الجميع لوقفة للتأمل، و لو للحظات معدودات، لمسيرة هذه الدولة الفتية التي هي أقرب إلى المعجزة من الحقيقة، وأقرب إلى الخيال من الواقع. لنتأمل مراحل تأسيسها منذ بزوغ فجرها الأول، في الثاني والعشرين من شهر فبراير عام 1727م، الموافق لمنتصف عام 1139ه، على يد الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي الدرعي الحنفي، الذي اتخذ الدرعية عاصمة لدولته؛ وما عاشته من مظاهر قوة وضعف، وما تعرضت له من أفول نجم وبزوغ فجر جديد. ثم قيام الدولة السعودية الثانية بقيادة البطل الهمام الإمام تركي بن عبد الله ابن الإمام محمد بن سعود عام 1240ه/1824م، الذي يُعَدُّ أول حاكم من آل سعود يتخذ الرياض قاعدة للحكم السعودي، لتستمر دولته (69) عاماً، مع ما تعرضت له من مصاعب ومؤامرات وفتن وغدر وخيانة وحروب أهلية، أدت لأفول نجمها، ليبزغ فجر الدولة السعودية الفتية من جديد، بقيادة البطل الفذ العبقري، الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، كما يصفه شاعره المتفرد الملهم، أحمد بن إبراهيم الغزاوي، ابن مكة المكرمة، في قصيدة له بعنوان: (هو العيد إن أضحى على الناس موسم)، إذ يقول:
هو الغرَّة البيضاء من آل مقرن
وهم بعده التحجيل والعرب أدهم
وهيهات أوفيه الثناء جميعه
و لو أنني في ما أحاول ملهم
إثر استرداده حكم آبائه وأجداده في الرياض، في تلك الملحمة الفريدة النادرة، كما وصفها الشاعر اللبناني المبدع بولس سلامة، التي انطلقت من الكويت لتؤتي أُكُلها ثمراً شهياً فجر الخامس من شوال عام 1319ه، الموافق لليوم الخامس عشر من شهر يناير عام 1902م؛ لتنطلق بعدها مسيرة التوحيد الشاقة التي استمرت لأكثر من ثلاثة عقود.
أجل أيها القارئ الكريم، لتقف كل سعودية وكل سعودي على امتداد ربوع هذا الوطن الشامخ الراسخ، و لو للحظات معدودات، متأملين هذا الكم الهائل من العمل التراكمي المضني المدهش، الذي صاحبته تضحيات عظيمة بالغالي والنفيس، بل بالدم والروح، حتى وصلنا إلى هذه اللحظة السعيدة المشرقة في جبين التاريخ الإنساني كله، التي نقف فيها مبتهجين فرحين سعيدين، شاكرين الله سبحانه وتعالى المنعم الوهاب، ثم قادتنا الكرام البررة، متأملين جهدهم وعملهم الدءوب ليل نهار، وجمعهم للصف وتوحيد كلمة شعبهم، والتفافهم حولهم، لتتحول هذه الصحراء التي كانت ذات يوم جرداء يعايرنا بها وببعيرنا بعض الجهلة الحاقدين، الذين أصبحوا اليوم يتمنون الحصول على فرصة للإقامة فيها والعمل، ويبذلون من أجل ذلك الغالي والنفيس، بعد ما تحولت تلك الصحراء الجرداء، بتوفيق الله عزَّ و جلَّ، ثم بعزيمة قادتنا الأبطال أهل العزم والحزم على مر تاريخها المجيد، ووحدة شعبها المخلص الوفي، وما تحقق من إنجازات تراكمية مدهشة من عهد إلى آخر، تحولت إلى دولة قارة فتية شامخة راسخة، سحرت لب العالم كله، فأصبح الجميع يشد إليها الرحال، حتى أولئك الذين يصنفون أنفسهم عالماً أول ودولاً عظمى، طلباً للدعم والمساعدة والرأي السديد؛ وتحول فيها البعير إلى إيواكس.
وكلنا يتأمل هذه اللوحة الفسيفسائية الأخاذة، لا بد أن يتبادر إلى ذهن الجميع سؤال بدهي: لِمَ كل هذا الإصرار على صمود هذه الدولة السعودية، مع ما تعرضت له من محاولات عديدة مستميتة للقضاء عليها ومحو أثرها من صفحات التاريخ؟!. والإجابة ببساطة شديدة: لأنها دولة رسالة، كما أكد مؤسسها الملك عبد العزيز آل سعود: (نحن آل سعود، لسنا ملوكاً، ولكننا أصحاب رسالة).. أجل، أصحاب رسالة غايتها توحيد الله سبحانه وتعالى وإعلاء كلمته، ومن ثم إحسان الخلافة في الأرض على أكمل وجه يستطيعه إنسان حيثما كان.. رسالة لُحْمَتها العناية بالحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة وخدمة ضيوف الرحمن، وسداها توفير حياة كريمة للمواطن والمقيم على ثراها الطاهر، ونشر الخير حيثما كانت هنالك حاجة في هذا العالم الفسيح، دونما تفرقة بسبب عقيدة أو مذهب أو جنس أو لون.
أجل.. بقيت هذه الدولة الفتية قوية صامدة أمام كل العواصف التي استهدفت وجودها، لأن قادتها الكرام البررة أصحاب رسالة سامية عظيمة، وشعبها مؤمن بالله، متماسك متفانٍ في خدمة رسالتها، حريص على حماية استقلالها ومقدساتها وحريتها؛ إذ يقول مؤسسها في هذا: (لقد ملكت هذه البلاد التي هي تحت سلطتي بالله ثم بالشيم العربية، وكل فرد من شعبي هو جندي وشرطي، وأنا أسير وإياهم كفرد واحد، لا أفضل نفسي عليهم، ولا أتبع في حكمهم غير ما هو صالح لهم حسبما جاء في كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم).
وقد سار على هذا النهج الذين تولوا قيادة قافلة خيرنا القاصدة بعده كابراً عن كابر، مستحضرين دوماً تقوى الله وطاعته وخشيته، دستورهم كتاب الله عزَّ وجلَّ وسُنَّة رسوله عليه الصلاة والسلام. وعلى هذا الأساس هم سائرون إلى الأبد إن شاء الله، كما أكد ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين، سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، إذ يقول: (الإنسان ضعيف، الإنسان بشر، مهما بلغ من السلطة والنفوذ أو العلم والمال، أو حتى القوة الجسدية، يوماً من الأيام سيواجه ربَّه، تحت الثرى، تحت التراب، كما هو تراب. فنحن نعمل لهذا اليوم. ديننا يفرض علينا أن ننظر إلى ما بعد الحياة، إلى ما بعد القوة، إلى ما بعد المال والنفوذ، إلى ما بعد السلطة والعلم.. هل عملنا في دنيانا النافع لنرجو من الله عزَّ وجلَّ أن يعفو عنَّا، ويغفر لنا، وأن يُقَدِّر ما عملنا جميعاً ويرحمنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).. أتمنى من كل قلبي، أن ننظر كلنا إلى ذاك اليوم الذي نلقى فيه ربنا سبحانه وتعالى، ونحن نغادر بيوتنا لأداء أعمالنا في مختلف المجالات.
ويعزِّز هذا الحس العالي من الشعور بالمسؤولية الذي عبَّر عنه ولي أمرنا، والخوف من الله والتواضع، والحرص على الوفاء لرسالة بلادنا، وتحمل مسؤوليتها في خدمة الشعب، ولي عهدنا القوي بالله الأمين، أخي العزيز صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، رئيس مجلس الوزراء، إذ يخاطبنا قائلاً: (اعتبروني ابناً لكم وأخاً، بل وأباً أيضاً، وإن كنت صغيراً في السن).. أرأيتم؟! حتى وسموه الكريم ليس بأكبرنا، يرى نفسه أنه أباً للجميع. لأن الأب هو ربُّ الأسرة، مسؤول عنها، مستحضراً ما أكده رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: (كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته). فالراعي إذاً هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما أؤتمن عليه، فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه. وسموه اليوم أكثرنا إدراكاً لهذا المعني. ولهذا يرى نفسه أباً مسؤولاً عن رعاية الجميع، كبيرنا قبل صغيرنا. ليس هذا فحسب، بل يتمنى، أطال الله لنا عمره وبارك فيه، ألاَّ يغادر الدنيا إلا بعد أن يرى منطقة الشرق الأوسط كلها في مقدمة مصاف دول العالم، مؤكداً أن الأمر أكثر من ممكن.. ذلك هو ديدن آبائه وأجداده الكرام، الذين يرون أن رسالتهم تتجاوز حدود بلادهم لتنثر الخير على العالم أجمع.
فتلك إذاً هي أشبال تقتفي أثر أسودها، كما أكد الشاعر محمد بن إبراهيم المراكشي، في رائعته أمام الملك عبد العزيز، بعنوان: (من المغرب الأقصى أتتك تحية) إذ يقول:
وما اقتفت الأشبال إلا أسودها
فدُم لها فخراً و دُم لها ذخراً
ويؤيده الشاعر أحمد أبو النجا في قصيدة له بعنوان: (على رأسهم عبد العزيز فديته) مخاطباً الملك عبد العزيز، إذ يقول:
ففتحت الأمصار شرقاً ومغرباً
بدعوة حق أو برمح ومخذم
وبينهم آل السعود كأنهم
كواكب هدىً أو عزائم ضيغم
على رأسهم عبد العزيز فديته
محا الظلم حتى خافه كل ظالم
ويقول الشاعر بدوي حسين صقر في رائعته بعنوان: (عبد العزيز، وأنتم خير من ملكوا):
عبد العزيز، وأنتم خير من ملكوا
على لواء ببسم الله معقود
فأنتم الشمس والأشبال حولكم
بدور تم سناها غير محدود
أما الشاعر عبد الظاهر أبي السمح فيقول في المعنى نفسه، مخاطباً الملك عبد العزيز، مهنئاً بالعيد في قصيدة له بعنوان: (وبقيت للإسلام خير عماد):
ما العيد إلا أن نراك مؤيداً
لكتاب ربك عاملاً لمعاد
وبأن نرى الأنجال مثلك في تقىً
ومحبة للدِّين والعباد
وكان بدهياً أن يَصْدُق حدس الشعراء المرهفين، فهؤلاء هموا الأنجال اليوم، شموس تضئ للناس الطريق، وبدور يهتدي السراة بسنائهم.. أشد حباً للدِّين، وأكثر إخلاصاً للعباد جيلاً بعد جيل.
أجل.. هلموا جميعاً نسترق لحظات معدودات من يومنا الرائع الجميل هذا، لنقف متأملين الجهد العظيم والعمل الشاق الجبار الذي تم على مدار ثلاثة قرون، هي عمر دولة الفتية، لنتفيأ نحن اليوم ظلالها الوارفة، ونقطف من ثمارها الشهية في كل المجالات. ولأن الوقت لا يتسع لكل ما يدور بالذهن في لحظة التأمل العميق هذه، أكتفي بالمرور سريعاً على بعض جوانب مهمة، لنداوم على شكر الله عزَّ و جلَّ المنعم الوهاب وحمده والثناء عليه، ثم نعبِّر عن شكرنا وامتنانا وعرفاننا لقادتنا الكرام البررة، الذين أعلوا البنيان جيلاً بعد آخر، وصولاً إلى القيادة الرشيدة، التي تحمل الراية اليوم في عهدها الزاهر هذا، بالعزم نفسه والحزم نفسه، حتى تبلغ قافلة خيرنا القاصدة غايتها رغم أنف المرجفين:
1. تحقيق الوحدة وبسط الأمن الشامل:
كانت منطقة شبه الجزيرة العربية تعاني تفككاً سياسياً، بسبب ما كات تعيشه من فوضى عارمة وانعدام الاستقرار السياسي والاجتماعي، وغياب الأمن، وكثرة الإمارات المتناثرة المتناحرة، إضافة لانتشار الأمراض والأوبئة. ولهذا سادها قانون الغاب، وأكل القوي فيها الضعيف.. حتى رحلة الحج إلى بيت الله الحرام، لم تسلم من هذه الفوضى، إذ كانت مخاطرة حقيقية من الداخل والخارج على حد سواء. فكان الحاج يودِّع أهله بالدموع، وداع من يتهيأ لأسوأ مصير، وهو القتل، ثم نهب ما معه من متاع من قبل قطاع الطرق؛ إضافة لمخاطر أخرى كالكوارث الطبيعية من سيول وأمطار وشح مياه الشرب وانتشار الحيوانات المفترسة، والأتاوات التي تدفعها قوافل الحجيج للسماح لها بالمرور، ووعورة الطريق، وعدم وجود مواصلات مريحة سريعة. وفوق هذا وذاك كله، كانت تشتعل أحياناً فتن، فينشب قتال حتى داخل حدود الحرم. فكان أمر الحاج كما يقولون: الذاهب مفقود، والعائد مولود.
فجاء الملك عبد العزيز، واهتم بتحقيق وحدة القلوب وجمع الشمل، قبل اهتمامه بوحدة الجغرافيا، كما يؤكد دوماً والدنا خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ذاكرة الوطن التي لا تشيخ، ومستودع إرثنا الحضاري. فالتف الشعب حوله، وتمكَّن بعون الله وتوفيقه، ثم بهذا العمل الشاق الجاد المتصل ليل نهار، من تأسيس هذا الكيان الشامخ الراسخ. وكان أول شيء اهتم به هو تحقيق الأمن الشامل، لإدراكه أن الأمن هو عمود الاستقرار، الذي يمثل المطلب الأساسي للتقدم والازدهار. فعمَّ الأمن والأمان والاطمئنان سائر ربوع البلاد، من أقصاها إلى أدناها، لاسيَّما في منطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة. واطمأن الناس على أرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم؛ وأصبح الإنسان يسير من صنعاء إلى الشام، لا يخشى إلا الله، ثم الذئب على غنمه. ويقول شكيب أرسلان في هذا: (لو لم يكن من مآثر الحكم السعودي، سوى هذا الأمن الشامل الوارف الظلال على الأرواح والأموال التي جعلت صحاري الحجاز وفيافي نجد آمن من شوارع الحواضر الأوروبية، لكان ذلك كافياً لاستجلاب القلوب واستنطاق الألسن في الثناء عليه). كما صوَّر الشاعر أحمد بن إبراهيم الغزاوي، شاعر الملك، هذا المعنى في رائعته: (ومن آياته أن اجتمعنا) تصويراً بديعاً رائعاً، إذ يقول:
بأمنٍ لا نظير له بأرضٍ
وعدلٍ يوسع الجاني عقابا
وكان الجمع قبل اليوم يخشى
من الفرد المناهل واليبابا
فأمسى الفرد تخشاه جموع
و لو بلغت أسنتها السحابا
وعلى كل حال، من يطالع كتب الرحلات التي كتبها رحالة أجانب، من بينهم عرب، ككتاب: (ملوك العرب.. رحلة في البلاد العربية) لأمين الريحاني، و: (الطريق إلى مكة) لمحمد أسد، وكتاب: (ياباني في مكة) للياباني تاكيشي سوزوكي، وكتاب: (يوميات رحلة إلى الحجاز) للهندي غلام رسول مهر وغيرها كثير مما ورد في كتاب: (جمهرة الرحلات) للمفكر أحمد محمد محمود.. أقول: من يطالع تلك الكتب، يدرك جيِّداً مدى ما حققه المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود من أمن مكين، خاصة لضيوف الرحمن، فأصبحت الصحراء، على ما تمثله من إغراء للمتفلتين، أكثر أماناً من أي مدينة في العالم. بل أكثر من هذا: أصبحت بلادنا مضرب المثل في العالم، لاسيَّما من حيث أمنها الذي أصبح ماركة سعودية عالمية بارزة، لا يعرف مطلقاً جريمة ضد مجهول. ولهذا أسرت أولئك الرحالة والكُتَّاب شخصية المؤسس، فوصفوه بـ (أكبر إستراتيجي) عرفته الجزيرة العربية في ذلك الوقت، و (رجل عملاق في حجم جبل).
ولم يكن قائداً فذَّاً مثل عبد العزيز يكتفي بتوفير الأمن فقط للحجاج، بل سخَّر كل قدرات بلاده، مع شُحِّها آنئذٍ لتوسعة الحرمين الشريفين وتوفير جميع سبل الراحة لهم. فاطمأنوا على أرواحهم ومتاعهم ورواحلهم، وتوافدوا على الديار المقدسة زرافات ووحداناً، حتى بلغ عددهم في آخر سنة أشرف فيها الملك عبد العزيز على الحج قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى (250) ألف حاج من مختلف بلدان العالم؛ ويُعَدُّ هذا عدداً كبيراً بمقاييس تلك الظروف.
وهكذا بعد مرور أكثر من قرن على تنظيم أول موسم للحج في العهد السعودي المبارك الميمون (1343/1924) استطاعت السعودية، بتوفيق الله، ثم بجهد قادتها وإخلاص شعبها، تجاوز جميع التحديات، وتذليل كل الصعوبات، وتقديم أرقى الخدمات لضيوف الرحمن، مما لا مثيل له في التاريخ. واكتسبت الدولة بعد مسيرة عمل طويلة وخبرات استثنائية في إدارة الحشود، الأزمات، الموارد والمشروعات؛ فتضاعف عدد الحجاج من (250) ألف حاج في أواخر عهد المؤسس، إلى أكثر من ثلاثة ملايين حاج اليوم في عهد سلمان الشهامة، كما يصفه أخي الشاعر المبدع شبيه الريح، إذ يقول في رائعته: (سلمان الشهامة):
مهاب في الأنام طويل قامة
قديم، قديم عهد باستقامة
مثيل أبيه أشباهاً وفعلاً
عصي الوصف سلمان الشهامة
له من كل مكرمة علاها
له المجد التليد له الزعامة
ليس هذا فحسب، بل أذهلت السعودية العالم، وظهرت قدراتها الخارقة وخبراتها الفريدة في إدارة الحشود في حج عام (1441/2021) الذي صادف اجتياح فيروس (كورونا – 19) العالم في غرة ديسمبر من عام 2019، فتعرضت بسببه مختلف الفعاليات في شتى أنحاء العالم للإلغاء أو التأجيل أو التقييد وفق شروط صارمة، نتيجة انتشار الوباء كما تفعل النار في الهشيم، إذ اجتاح أكثر من (180) دولة، وتعطل السفر والتعليم والأعمال التجارية، وأُصِيبت الحياة بشلل عام، فأصاب الناس هلع كاد يخرج قلوبهم من صدورهم، لما كانت تتناقله وسائل الإعلام يومياً من أخبار إصابات ووفيات بالجملة في مختلف البلدان، خاصة في (العالم الأول).
وساعتئذٍ هلَّل الناعقون وأرغى المرجفون وأزبدوا، ظنَّاً منهم أن مثلهم من العملاء أشباه الرجال، يمكنهم تعطيل قافلة دولة الرسالة القاصدة؛ غير أنه بحمد الله وتوفيقه، ثم بعزم القيادة الرشيدة ووفاء الشعب وإخلاصه، قلبت السعودية الطاولة عليهم، فاستطاعت إقامة شعيرة الحج التي لم تكن تنقطع مطلقاً عبر التاريخ الإسلامي، وحققت في الوقت نفسه مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ النفس البشرية التي تُعَدُّ إحدى الضرورات الخمس، بما اتخذته من تدابير صارمة ذكية متقدمة، مكنت الحجاج من أداء الفريضة موفرة لهم رعاية استثنائية، وخدمة (7 نجوم)، بل من فضل الله الرحيم وكريم عطائه، لم يشهد عام (1441/2021) و لو حالة إصابة واحدة يتيمة بفيروس كورونا بين الحجاج، أو حتى حالة وفاة واحدة.. وهكذا أدهشت السعودية العالم الذي فغر فاهه مجدداً بما حققته من تقدم فريد في إدارة الحشود وطبَّها، وردَّت كيد المأجورين الناعقين في نحورهم، بل أوصى طبيب العالم (منظمة الصحة العالمية) باستلهام تجربة السعودية في طب الحشود.
والوعد أن يحظى ضيوف الرحمن في ضوء ما يقدمه (معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة) بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، الذي أسسته الدولة خصيصاً ليعنى بأبحاث الحج والعمرة، لتزويد المعنيين بأمر الحج بما يتوصل إليه من أفكار ذكية تسهم في راحة الحجيج وتوفر أفضل رعاية لهم عاماً بعد عام.. مثلما يحظى كل مواطن ومقيم على ثرى هذه الأرض الطيبة الطاهرة المباركة بعناية الدولة ورعايتها.
2. التعليم:
ونحن نتأمل في يومنا الوطني السعيد هذا، كم العمل الهائل الذي اضطلع به قادتنا لننعم اليوم بظل هذه الدولة الفتية، نستحضر ما قاله المؤسس عن أهمية التعليم: (التعليم في المملكة هو الركيزة الأساسية لنحقق بها تطلعات شعبنا نحو التقدم والرقي في العلوم والمعارف.. فاعلموا أن العلم بلا عمل، كشجرة بلا ثمر، وأن العلم كما يكون عوناً لصاحبه، يكون عوناً عليه. وليس من يعلم كمن لا يعلم. والمدنية الصحيحة هي التقدم والرقي، ولا يتحقق هذا إلا بالعلم والعمل). ولهذا كان المؤسس شديد الاهتمام بأمر التعليم، فأصدر نظام البعثات (1355/1936) وافتتح في العام نفسه مدرسة لتحضير البعثات. وبتأسيس كلية الشريعة في مكة المكرمة (1369) التي تُعَدُّ أول تجربة رائدة للتعليم الحديث، دخلت السعودية عهد المرحلة الجامعية.
فلنلقي نظرة سريعة على تطور التعليم من (12) كُتَّاباً في عهد المؤسس، إلى (29) جامعة حكومية و (15) جامعة أهلية، بإجمالي (44) جامعة منتشرة في مختلف ربوع بلادنا الحبيبة، بينها جامعات متخصصة، كجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن للبنات، جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن وغيرها؛ إضافة إلى (13) كلية حكومية وأهلية و (7) كليات عسكرية. أما فيما يتعلق بالتعليم العام، فقد بلغ عدد المدارس (43233) مدرسة، بينها (35500) مدرسة حكومية، يدرس بها أكثر من (6) ملايين طالبة وطالب، فيما تجاوز عدد طلاب التعليم العالي (2) مليون طالبة وطالب. وبالقدر نفسه حقق الابتعاث اليوم قفزات هائلة، إذ تجاوز عدد المبتعثين (92) ألف مبتعث في مختلف التخصصات، بينهم أكثر من (52) ألف طالبة وطالب، وأكثر من (18) ألف موظفة وموظف، فيما تجاوز الدارسون على حسابهم الخاص الـ (13) ألف، إضافة إلى نحو (10) آلاف مرافق. يدرسون في أكثر من (40) دولة في مختلف قارات العالم، تتصدرها أمريكا، بريطانيا، أستراليا، ألمانيا، فرنسا، هولندا، الصين، اليابان والنمسا.
وحقق التعليم في السعودية تقدماً كبيراً في المؤشرات العالمية، إذ تربَّعت السعودية في المرتبة الأولى على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فيما احتلت المرتبة الـ (16) عالمياً، ضمن مؤشر التعليم العالي الذي أعدَّه موقع أنسايدر مانكي. وارتفع عدد الجامعات السعودية في التصنيف العالمي للجامعات لعام (2023) إلى (12) جامعة.
وجدير بالذكر أن التعليم والابتكار قد حقق في ضوء رؤية (2030) تقدماً ملحوظاً لتلبية احتياجات سوق العمل، ويجري العمل حالياً على قدم وساق، وفق برامج رؤيتنا الطموحة الذكية، على أن تكون المملكة من بين أفضل (10) دول في مؤشر التنافسية العالمي بحلول عام (2030).
3. الاقتصاد:
وكما في الأمن والتعليم، حققت بلادنا عبر تاريخها الطويل إنجازات مذهلة في كل المجالات، ففي مجال الاقتصاد مثلاً، يُعَدُّ هذا الانجاز الفريد، أحد أهم النجاحات الوطنية الكبيرة التي تهدف للارتقاء بالوطن والمواطن، فمن (14) مليون ريال، كأول ميزانية رسمية في عهد المؤسس (1352)، إلى (1251) مليار ريال في عام يومنا الوطني هذا، أي تضاعفت ميزانية دولتنا (90) ألف مرة، مقارنة بأول ميزانية في تاريخها. وبينما كان النفط يشكل أكثر من (90%) من الميزانية سابقاً، يشكل القطاع غير النفطي اليوم نحو (40%) منها، في تحول ملفت، أذهل خبراء الاقتصاد في العالم كله، وجهابذة المال.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن رؤيتنا الطموحة الذكية (2030) تهدف إلى تعزيز دور القطاع الخاص وإسهامه في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي إلى أكثر من ثلاثة أضعاف، ليشكل (605) مليارات بنهاية مدة الرؤية. وهكذا نجد أنه تحقيقاً لأهداف الرؤية التي تتعلق بضرورة تقدم تنافسية السعودية عالمياً، لاسيَّما في مجال الاقتصاد الذي يمثل دعامة التنمية في كل المجالات، حلَّت بلادنا في قائمة الدول العشر الأوائل، محققة مراكز متقدمة في عدد كبير من المجالات، كالأداء الاقتصادي، كفاءة الحوكمة، التحول الرقمي في الشركات، البنية التحتية، الدَّين العام الحكومي، إنتاج الطاقة المحلية، الأمن السيبراني في الشركات وغير هذا كثير؛ متفوقة على دول لها اقتصاد متقدم حتى ضمن مجموعة قائمة العشرين (G 20) كفرنسا، اليابان، تركيا، كوريا الجنوبية، أندونيسيا، البرازيل، الهند، الأرجنتين وإيطاليا.
وعلى صعيد آخر، تعمل السعودية على تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة من خلال عدة مشروعات: مشروع نيوم، مشروع البحر الأحمر، برنامج سكني، مشروع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، برنامج تطوير القطاع المالي، مبادرة الشرق الأوسط الأخضر ومبادرة مستقبل الاستثمار.
وبعد:
ومحدثكم يقف متأملاً معكم هذا الجهد الجبار، والعمل المدهش الذي بذله قادتنا الكرام البررة عبر تاريخ بلادنا، لنقطف نحن اليوم ثمار تعبهم وشقائهم وتضحياتهم، دولة فتية قوية متقدمة، تشرئب إليها الأعناق من كل فج عميق؛ تتداعى إلى ذهني إنجازات عديدة، غير أن الوقت لا يسمح كما ذكرت في البداية، ولهذا أكتفي بهذا القدر، على أمل أن تتاح فرصة لاستكمال تلك اللوحة الفسيفسائية الرائعة الجميلة في مقال آخر.
وقبل الختام، لا بد من التعبير الصادق عن جزيل الشكر والتقدير، وصادق العرفان والامتنان، لوالد الجميع، مؤسس هذا الكيان الشامخ الراسخ، الملك عبد العزيز آل سعود، ولقادتنا الكرام السابقين له واللاحقين ممن حملوا الراية بعده مقتفين خطاه، ولقائد مسيرتنا الظافرة اليوم، خادم الحرمين الشريفين، سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ولولي عهده القوي بالله الأمين صاحب السمو الملكي أخي العزيز الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، رئيس مجلس الوزراء، ولكل من أسهم في إعلاء هذا البنيان مهما كان جهده.
وإن كانت الفرحة لا تسعني اليوم، ونحن نحتفي بيومنا الوطني المشرق الوضاء البهي هذا، إلا أنني لا أكتمكم سرَّاً لما أشعر به من حزن، على رحيل الوالد المكرم عبد الله بن تركي بن عبد العزيز آل سعود، الذي نفتقده في كل لحظة، خاصة في هذا اليوم الذي كان يطرب فيه مجلسه العامر بحكايات هي أغرب من الخيال، وهو يحدثنا عن جهاد المؤسس وصحبه الكرام، الرواد الأوائل، الذين حملوا أرواحهم على أكفهم وتجشموا معه المشاق، وأقتسم معهم التمرة ورشفة الماء وكسرة الخبز، وافترش معهم الأرض والتحف السماء، من أجل تحقيق الهدف، في ظروف أقل ما يقال عنها إنها كانت قاسية. فلنترحم عليهم جميعاً، ولنسأل الله أن يجزيهم عنَّا كل خير، ولنحرص كلنا، كل واحد في مجال عمله، لا أقول على المحافظة على هذا الإرث المشرِّف الذي ورَّثوه لنا، بل نسعى جادين لتطويره وتقدمه وتنميته والدفاع عنه بكل ما نملك من غالٍ ونفيسٍ، حتى إن استدعى الأمر أن نجود بأرواحنا، ليبقى لأجيالنا مثلما دفعوا هم حياتهم ثمناً ليسلمونا له. فبالعمل وحده، بعد توفيق الله عزَّ و جلَّ، يتحقق الأمل.
فلنزجي الشكر كلنا لولي أمرنا، خادم الحرمين الشريفين سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، بلسان أخي الشاعر المبدع شبيه الريح، مؤكدين ولاءنا لقائدنا البطل الهمام سلمان الشهامة، ووفاءنا وصدقنا وإخلاصنا:
حفظت الملك عهداً بعد عهد
وكنت أمينه وكذا حزامه
على أن صرت فخر الملك حقاً
فأنت ملوكنا ولك الإمامة
وكل عام قيادتنا بخير، وشعبنا في رخاء وهناء وسعادة، وبلادنا في أمن وأمان واطمئنان واستقرار.