البلاد – جدة
تحتفي المملكة العربية السعودية؛ قيادةً وشعبًا، باليوم الوطني الرابع والتسعين، الذي يصادف اليوم الاثنين الموافق 23 سبتمبر.
وفي هذه المناسبة المجيدة، نستذكر سيرة القائد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود– رحمه الله وجزاه الله عنا خير الجزاء- الذي أفنى عمره في مواجهة المخاطر وتحديات الحياة في الجزيرة العربية، من تناحر وخوف وشظف العيش؛ ليؤسس- بفضل الله تعالى- ثم ببطولاته وعبقريته القيادية، هذا الكيان الشامخ” المملكة العربية السعودية” أعظم وحدة في العصر الحديث؛ وطنًا وإنسانًا، سطرها لها التاريخ صفحاته بمداد من ذهب.. دولة فتية تنعم بالأمن والاطمئنان والخيرات الوفيرة، ويقف لها العالم احترامًا وتقديرًا.
في هذا اليوم الأغر، يستذكر أبناء الوطن ومن يقيمون على أرضه اليوم، هذه المناسبة الوطنية، وهم ينعمون برخائه، ويتمتعون بنموه، ويعتزون بشموخه، ويفخرون بإنجازاته وثمار رؤيته الطموحة، لمستقبل يحقق أحلامهم، ويرسم طريقًا ذا خطى ثابتة للأجيال المتعاقبة، تحت ظل قيادة حكيمة- حفظها الله- سارت بالوطن إلى مصاف الدول المتقدمة، وسخّرت كل السبل لراحة المواطن والمقيم، ليعيشوا بكرامة وعزة وسلام وأمان.
إن ما نعيشه اليوم من نهضة رائدة في هذا العهد الزاهر، هو امتداد لتاريخ صنعه قائد عظيم، كان له الفضل- بعد الله سبحانه وتعالى- في تأسيس دولة على شرع الله، رايتها التوحيد، ودستورها كتاب الله، وسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم- تنعم – ولله الحمد – بالأمن والأمان والاستقرار، وباتت قوة فاعلة على المستويين المحلي والدولي.
أسس راسخة
لقد ارتسمت على أرض المملكة العربية السعودية ملحمة جهادية، تمكَّن فيها الملك عبدالعزيز- رحمه الله- من جمع قلوب أبناء وطنه وعقولهم على هدف واعد نبيل، وبتوفيق الله، وما حباه الله من حكمة أرسى- طيب الله ثراه- قواعد وأسس راسخة لوطن الشموخ والعدل والأمن ممضيًا؛ من أجل ذلك سنين عمره.
وفي 23 من سبتمبر عام 1932م جاء الإعلان التاريخي للملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود- رحمه الله- لتوحيد بلادنا المباركة تحت راية” لا إله إلا الله، محمد رسول الله”، وإطلاق اسم المملكة العربية السعودية عليها بعد جهاد وكفاح استمر اثنين وثلاثين عامًا، وضع خلالها قواعد راسخة لهذا البنيان العظيم، وذلك على هدي من كتاب الله الكريم، وسنة الرسول الأمين- عليه الصلاة والسلام- سائرًا في ذلك على نهج أسلافه من آل سعود.
حيث قامت الدولة الفتية، ناشرةً السلام والخير، باحثةً عن العلم والتطور، سائرةً بخطى حثيثة نحو مستقبل أفضل لشعبها وللأمة الإسلامية والعالم أجمع.
وبحسب ما ورد في مجلد” سيرة وشخصية الملك عبدالعزيز ومراحل بناء الدولة السعودية الثالثة”- طباعة دارة الملك عبدالعزيز- ولد الملك المؤسس في مدينة الرياض عام 1293هـ وترعرع فيها، ونهل من علمائها، حيث تعد الرياض امتدادًا تاريخيًا لمسيرة الآباء والأجداد، وكان يتعلم ركوب الخيل، ومهارات الفروسية.
مهابة وقدوة
تأثرت شخصية الملك عبدالعزيز كثيرًا بشخصيّة والده الإمام عبدالرحمن الفيصل– رحمهما الله- حيث كان أبًا وُمعلمًا وأخًا وصديقًا لابنه.. وللملك عبدالعزيز شخصية قوية آسرة ومهابة تأثر بها كل من قابله، وصورة باسمة مشرقة بأسارير متهلّلة بما عُرف عنه- رحمه الله- من لين الجانب والتواضع والمرح، وعدم تكلّفه في الحديث مع أبناء شعبه ورعيته، فضلاً عن كرمه وسخائه مع الجميع، فلم يكن ملكًا فقط، بل كان رب أسرة ومحبًا للجميع، ورجل قدوة في أفعاله وسلوكياته.
وعُرف عن الملك عبدالعزيز احترامه الكبير للعلماء طيلة فترة حياته– رحمه لله– فكان يقدمهم على إخوته في مجلسه، ويستمع إليهم، ومبعث ذلك إيمانه التام بقيمة العلم والعلماء وأثرهم في الحياة، وأن احترامهم وحسن العلاقة بهم والاستئناس بآرائهم واجب تمليه العقيدة الإسلامية، التي ظل مطبقًا لمنهجها– رحمه الله- في حياته الخاصة والحياة العامة في البلاد، ومضى على ذلك النهج من بعده أنجاله الملوك البررة.
ومرّ الملك عبدالعزيز- رحمه الله- بأحداث ومحطات متعددة في حياته كانت مؤثرة في بناء شخصيته الفذّة- رحمه الله- خاصة منذ أن بلغ سن الخامسة عشرة؛ حيث أسهمت هذه الأحداث في صقل شخصيته، وعلمته الصبر والقوة والإقدام.
رحلة بطولية
اعتبر المؤرخون خروج الملك عبدالعزيز، مع والده الإمام عبدالرحمن– رحمهما الله– وبعض أفراد أسرته من الرياض عام 1308هـ الحدث الأصعب في حياته، وكانت محطتهم الأولى بعد الرياض واحة” يبرين” في الأحساء ثم البحرين، إلى أن وصلوا فيما بعد إلى الكويت واستقروا بها عدة سنوات، ظل فيها الملك عبدالعزيز معلق القلب بالرياض.
فعندما بلغ سن العشرين من عمره وهو في الكويت، توجّه في الخامس من شهر رمضان عام 1319هـ إلى الرياض في رحلة بطولية، قاد مسيرتها بصحبة رجاله؛ ليتمكنوا- بفضل الله تعالى- من اختراق جوف الصحراء، التي تلتهب رمالها تحت أشعة الشمس الحارة، صائمين رمضان لربهم، قبل أن يأتي عليهم يوم العيد، وهم في موقع يطلق عليه” أبو جفان”.
وفي اليوم الرابع من شهر شوال من عام 1319هـ وصل الملك عبدالعزيز ورجاله إلى” ضلع الشقيب” الذي يبعد عن مدينة الرياض نحو ساعة ونصف مشيًا على الأقدام، ومن الضلع تقدموا إلى الرياض، التي دخلها الملك عبدالعزيز بذكاء القائد المحنك، وأعاد الأمور إلى نصابها الصحيح بعد عملية بطولية حامية الوطيس لم تدم طويلًا، طوى خلالها الملك عبدالعزيز زمن العهد الغابر، معلنًا بداية العهد الزاهر في نجد، بعد أن بايعه أهالي الرياض وأعيانها عام 1320هـ أميرًا على نجد وإمامًا لأهلها، وذلك عقب صلاة الجمعة في ساحة المسجد الكبير بالرياض، فدبّ الاستقرار السياسي في مدينة الرياض بعد سنين من الاضطراب، وكانت وحدة الحكم من أهم العوامل التي مهّدت دخول الرياض مرحلة جديدة من النمو والازدهار الحضاري.
تنظيم الدولة
تمكن الملك عبدالعزيز آل سعود– رحمه الله – بفضل الله تعالى، عبر رحلة طويلة، أضناه فيها طول المشي والتفكير من لملمة شتات البلاد، وإعادة الأمن، والتصدي للفوضى التي كانت سائدة في الجزيرة العربية آنذاك، وأصبح- بفضل الله- ثم بمحبة الناس ملكًا لدولة، سهر على بنائها وأوجد نظامها حتى أصبحت لها مواقف مشرّفة مع الأمتين الإسلامية والعربية والعالم أجمع.
واهتم الملك عبدالعزيز بتطوير البلاد، فأصدر مرسومًا ملكيًا يقضي بتحويل اسم الدولة من (مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها) إلى المملكة العربية السعودية، وذلك في 21 جمادى الأولى 1351 هـ الموافق 23 سبتمبر 1932م.
وعند بداية تنظيم الدولة، وجَّه الملك عبدالعزيز- رحمه الله- بالاهتمام بالحرمين الشريفين وتوسعتهما، وخدمة الحجاج والمعتمرين، فضلاً عن البدء في فتح المدارس، وإنشاء المستشفيات، وبناء القرى، وإصلاح التربة، وتوطين البادية، والتنقيب عن مياه الري من أجل دعم الزراعة، بيد أن هذه الجهود كانت تتطلب توفير المال لتنفيذها.
الثروة والبناء
وتماشيًا مع الرغبة في النهوض بالبلاد، بدأت في خريف عام 1933م عمليات التنقيب عن النفط في بعض أراضي المملكة، لكن مضت أربعة أعوام عجافـ، لم تثمر أعمالها عن الوصول إلى نتيجة إيجابية مرضية لاكتشاف مكامن النفط، إلى أن قرّر الخبراء التنقيب حول بئر ماء في منطقة تسمى” عين جت” كان الملك عبدالعزيز قد توقّف عندها عام 1319هـ في طريقه من الكويت إلى الرياض، فكانت المفاجأة وجود النفط على عمق 5 آلاف قدم تحت الأرض.
وانتعشت الأرض الصحراوية بخروج الذهب الأسود، الذي حوّل الصحراء القاحلة المؤنسة بهبوب الرياح إلى مدينة مزدحمة بالعمال والمهندسين وخبراء النفط.
وفي عام 1939م ضخ النفط أول بشائره في احتفال شهده الملك عبدالعزيز– رحمه الله- ليستهل بعدها مشروعات الدولة التي خطط لها- رحمه الله.
وكان اهتمام الملك عبدالعزيز– رحمه الله– بالشأن الخارجي بنفس اهتمامه بالشأن الداخلي، حيث كان يتعامل مع جميع دول العالم بدبلوماسية عالية المستوى، آخذًا بعين الاعتبار استقلال المملكة بقرارها واختيار طبيعة علاقاتها مع الدول دون الإخلال بمكانتها الدينية والحضارية والثقافية، وهو ما جعله محبوبًا من مختلف قادة دول العالم، وأصبح حديث الإعلام العربي والإقليمي والدولي في ذلك الوقت.
وفي شهر محرم من عام 1373هـ، ترجل الفارس الملك عبدالعزيز عن صهوة جواده، بعد أن اشتد عليه المرض أثناء إقامته في الطائف، وفي فجر الثاني من شهر ربيع الأول من عام 1373هـ الموافق 9 نوفمبر 1953م فاضت روحه– رحمه الله- إلى بارئها.
تُوفي– رحمه الله- بعد أن سار في رحلة طويلة، عاش فيها أعظم الأحداث، وواجه أكبر التحديات، لكنه ترك للأجيال من بعده إرثًا عظيمًا، يهنأ فيه الجميع بين أحضان دولة أسّست على التوحيد؛ لتظل- ولله الحمد- في نماء مستمر، وأمن وخير وسلام حتى وقتنا الحاضر. وُوري جثمان الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود– رحمه الله- في مقبرة العود وسط مدينة الرياض.
مكتبة ثرية
اهتم الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود- رحمه الله- بجمع المؤلفات العلمية خلال حياته على الرغم من انشغاله بمرحلة بناء الدولة في ذلك الوقت، فكان شغوفًا بالاطلاع على الكتب العربية المعنية بمختلف العلوم، خاصة العلوم الشرعيّة وطباعة معظمها على نفقته، وتوزيعها مجانًا للاستفادة منها، ليتم حاليًا رصد 1468 مجلدًا نادرًا في مكتبته الخاصة.
وتناولت كُتب ودوريات مكتبة الملك عبدالعزيز الخاصة في مقرها بدارة الملك عبدالعزيز بالرياض معارف نادرة ومتميّزة في مجالات العلوم الشرعية، والتراجم، والجغرافيا، والتاريخ الإسلامي والعام، واللغة العربية وآدابها، مرتبة وفق فهرسة رقمية تسهّل على الباحثين والدارسين عناء البحث في المجالات العلمية والفكرية والإسلامية.
وعدّت المكتبة مصدرًا مهمًا من مصادر التاريخ الحديث في المملكة العربية السعودية، خاصة ما يتعلق بعلاقة الملك عبدالعزيز- رحمه الله- بالعلم والمعرفة، كما تحمل كتبها في طياتها وأغلفتها عبارات وشواهد تاريخية، سطرها العديد من المؤرخين والمؤلفين المعروفين في العالمين العربي والإسلامي في ذلك الزمان.
شورى وتعاضد
لقد انتهج الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود- يرحمه الله- في تعامله مع مواطنيه سياسة قائمة على الشورى وعلى التناصح مع الرعية، واغتنام الفرص لتبادل الرأي والنصح، مسترشدًا بما جاء به ديننا الإسلامي الحنيف.
وكان لهذا النهج القويم الذي سار عليه الملك عبدالعزيز- رحمه الله- وتبعه في ذلك أبناؤه الملوك البررة من بعده الأثر الكبير، فيما تعيشه المملكة من تطور كبير قائم على تعاضد الدولة والمواطنين.
وقد أدرك الملك عبدالعزيز بثاقب بصره، أن التلاحم والتواصل بين القيادة والشعب وسياسة الباب المفتوح، هما من أفضل السبل وأنجعها لخدمة الوطن والمواطنين، ولتقدم البلاد ورقيها، ففي الحفل الذي أقامه الملك عبدالعزيز في جدة في الخامس والعشرين من محرم عام 1355هـ بمناسبة انتهاء موسم الحج وقرب سفره إلى الرياض، قال- رحمه الله:” المقصد من اجتماعنا الليلة أن نتناصح ونتعاضد” مضيفًا- رحمه الله:” وأود أن يكون هذا الاتصال مباشرة وفي مجلسي لتحملوا إلينا مطالب شعبنا ورغباته، وتحملوا إلى الشعب أعمالنا ونوايانا. إنني أود أن يكون اتصالي بالشعب وثيقًا دائمًا لأن هذا أدعى لتنفيذ رغبات الشعب.. لذلك سيكون مجلسي مفتوحًا لحضور من يريد الحضور”.
واستمرارًا على نهجه الكريم في توجيه النصح للرعية وشرح مالها وما عليها قال- يرحمه الله- في الخطاب الذي ألقاه في الحفل التكريمي، الذي أقيم على شرفه بمناسبة سفره إلى الرياض في الثاني من صفر 1355هـ:” إنّ على الشعب واجبات وعلى ولاة الأمر واجبات.. أما واجبات الشعب فهي الاستقامة ومراعاة ما يرضي الله ورسوله، ويصلح حالهم والتآلف والتآزر مع حكومتهم للعمل فيما فيه رقي بلادهم وأمتهم.. إن خدمة الشعب واجبة علينا؛ لهذا فنحن نخدمه بعيوننا وقلوبنا، ونرى أن من لا يخدم شعبه ويخلص له فهو ناقص”.
ويقف الباحثون والمؤرخون وقفة تأمل وإعجاب في تاريخ هذا الكيان الشامخ على البناء، وتخطي العوائق والصعاب والتغلب على كل التحديات- بفضل من الله وتوفيقه- ثم بالإيمان القوي والوعي التام بوحدة الهدف وصدق التوجه؛ حيث أرسى الملك عبدالعزيز- رحمه الله- منهجًا قويمًا، سار عليه أبناؤه البررة من بعده، لتكتمل أطر الأمن والسلام؛ وفق المنهج والهدف نفسه.
واليوم يعيش الوطن عهد الرفعة والسؤدد بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز– حفظهما الله. عهد الإنجازات والتطور وثمار الريادة؛ حيث القفزات النوعية الكبيرة والخطوات الرائدة في جميع المجالات؛ تحقيقًا لمستهدفات الرؤية السعودية الطموحة ومكتسباتها الحضارية لازدهار الوطن في حاضره وللأجيال، وتعزيز مكانته على كافة الأصعدة.