وأنا أودع والدي العطوف الحنون، عبد الله بن تركي بن عبدالعزيز آل سعود، إلى مثواه الأخير، بالأمس القريب في مكة المكرمة، أحب بقاع الله إلى قلبه، تداعى إلى خيالي شريط طويل، عريض من الذكريات، منذ أن تفتَّحت عيناي على شمس مكة المكرمة، إلى تلك اللحظة الحزينة التي أودعه فيها الوداع الأبدي الأخير.
فكنت أراه -رحمه الله-، وهو يعمل من أجلنا ليل نهار، من صلاة الفجر حتى آذان العشاء، ليوفِّر لنا احتياجاتنا، كان صوته يتردّد في سمعي، وهو يوقظنا للصلاة، ويصطحبنا إلى المساجد، ويجلسنا في مجالسه مع الأسرة، ومع ضيوفه بمختلف مقاماتهم، فيثرون مجلسه العامر، بأحاديث مستفيضة، في مختلف مجالات الحياة: الدِّين، الأدب، الثقافة، الاقتصاد، وتقلبات السياسة العالمية، بين دول الشمال الثري، وبين دول الجنوب الفقير، فكان ذلك المجلس العامر الحافل بزخم العلم والمعرفة، بمثابة منتدىً يقصده العلماء والمتخصصون في كل فن من ضروب الحياة، وهو يفعل ذلك -رحمه الله وغفر له-، عن قصد، لكي نتعلم الأدب والإنضباط، واحترام الكبير وتوّقير الصغير، ونتخلّق بأخلاق الرجال، وندرك قيمة الوقت وأهمية العلم والعمل؛ كما كان يحثّنا على تحصيل العلم النافع، وتلاوة كتاب الله وحفظه، ويشجِّعنا على الصيام حتى قبل أن نبلغ الحُلم.
أجل، كان أبي عبد الله، رجلاً كبيراً، مسؤولاً، شديد الاهتمام بتربيتنا، وتأديبنا وتعليمنا، فكان يحضَّنا على مكارم الأخلاق، ومساعدة المحتاجين، وحماية المستجير، وتلبية نداء المستغيثين، بعد الله سبحانه وتعالى، والتعاون على البر والتقوى، والنأي بالنفس عن كل خلق قبيح، وسلوك مذموم. كما كان يوصينا بتقدير نعم الله وشكره عزَّ و جلَّ، ويحثّنا على الصبر عند الابتلاء، مؤكداً لنا دوماً، أن الصبر عند البلاء، أعظم أجراً، من الشكر على النعمة؛ وها أنا اليوم، استحضر وصيته، مستمداً منها الصبر على فراقه، فاللهم عظِّم أجرنا، وأجبر كسرنا، وأرحم والدنا، وأغفر له.
وأنا أودعك أيها الوالد العطوف، الحنون، الوداع الأبدي الأخير، كانت الذكريات تتزاحم في ذلك الشريط الطويل العريض الذي طاف بخيال ابنك المكلوم في تلك اللحظة الصعبة من حياته؛ فكنت أرى لهفتك علينا، يوم يمرض أحدنا، والفرحة التي لم تكن تسعك، عند حفظنا لسورة من كتاب الله، ونجاحنا في تعليمنا، وزواجنا، واستقلالنا بأسرنا، واعتمادنا على أنفسنا.
أجل أيها الفقيد الكبير، العطوف، الحنون، العزيز، الغالي، كنت ككل أب، أحبنا إلى قلبك، مريضنا حتى يتعافى، وصغيرنا حتى يكبر، وغائبنا حتى يعود، وإن كان قلبك العطوف، الحنون، يسع الجميع.
وهكذا كان حالك مع أحفادك، الذين هم أبناؤنا وبناتنا، أحببتهم أكثر من حبنا لهم، بل آثرتهم على نفسك الكريمة الكبيرة، ففرحت لفرحهم، وتألمت لكل ما كان يؤذيهم، أو يسؤهم أكثرممّا كنا نفعل نحن آباؤهم وأمهاتهم، كنت تمازحهم، وتضاحكهم، وتؤانسهم، وتكافئهم، وتغدق عليهم الهدايا، وتجبر خاطرهم كلما كبا حصان أحدهم.
عليك سلام الله ورحمته ومغفرته أيُّها الأب العطوف الحنون، إذ كنت مجموعة رجال، لم يقتصر اهتمامك وعملك، على أسرتك الصغيرة فحسب، بل كنت توصينا بالعائلة الكريمة كلها، وبالأسرة السعودية في ربوع بلادنا كلهم، صغيرهم قبل كبيرهم، ومريضهم قبل صحيحهم، وفقيرهم قبل غنيهم. كما أذكر مشاركاتك لجيرانك، ومعارفك، وأبناء وطنك، في كل مكان، تفرح لفرحهم، وتجبر خاطرهم، كلما ساء أحدهم الزمان، ولن ننسى أبداً ما غرسته فينا من حب لقادتنا الكرام البررة، منذ نعومة أظفارنا، وطفولتنا الباكرة، وحب بلادنا الطاهرة، وأهمية المنافحة عنها، وحمايتها بالغالي والنفيس، وخدمتها في المنشط والمكره، وستظل مقولتك الشهيرة التي تردِّدها على أسماعنا دوماً: (نحن يا آل سعود، طير لا يطير إلا بجناحيه، و هم الشعب)، حاضرة في أذهاننا إلى الأبد، فعلاً قبل القول.
أذكر يا والدي، بل لن أنسى ما حييت، كيف كنت تحكي لنا جهاد المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود، والد الجميع، وتضحيات جدنا عبد العزيز (خيَّال الرّجلية) ابن عبد الله ابن الإمام تركي بن عبد الله ابن الإمام محمد بن سعود، مع الرواد الذين رافقوا المؤسس في تلك الملحمة الميمونة المباركة التي انطلقت من الكويت، وهم يحملون أرواحهم على أكفهم، لتفضي لاستعادة الرياض، ومن ثم تأسيس هذه الدولة الفتيَّة التي نتفيأ اليوم ظلالها الوارفة. أذكر في ذلك اليوم أنني تخيلت أولئك الأبطال ينيخون إبلهم في واحة يبرين، ويكابدون الحر، والجوع، والعطش، في شهر رمضان المبارك.
عليك سلام الله ورحمته وغفرانه، أيُّها الوالد الكبير العطوف الحنون، إذ كم كنت أتمنى أن استمد صبراً من صبرك لتوثيق سجاياك، وأخلاقك الفاضلة، وصفاتك الحميدة الإنسانية، التي ملؤها الرجولة، والشهامة، والمروءة، والشجاعة، والطيبة، والكرم، والتواضع، والعطف، والحنان؛ غير أنه ثمَّة غصّة في حلقي، ودمعي يختلط بالحبر فيبلِّل الورق، ولهذا استغرقت مني كتابة هذه الخاطرة، وقتاً طويلاً مع أنها مقتضبة، ولا تعبر عن كل ما يجيش بالنفس من مشاعر في هذه اللحظة القاسية.
وإن كان صعباً، على كل ابن، وداع والده، إلى مثواه الأخير، إلا أنه لا يسعني إلا الاحتساب، وقول ما يرضي ربي: (إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون)، وإنا لفراقك يا أبا بندر لمحزونون.
ومع مرارة الوداع، إلا أن آثارك، ستظل باقية بيننا في دارنا إلى الأبد، لا أقول تذكِّرنا بك، فنحن لن ننساك ما حيينا حتّى نضطر لكي نتذكرك، بل تؤكد لنا أنه ثمَّة والد كبير في كل شيء، عطوف حنون، كان ذات يوم هنا، ملء السمع والبصر: مشلحك، مسبحتك، نظاراتك، مقعدك، فرشك وعصاك التي كنت تتوكأ عليها في مرضك. وسيظل صدى صوتك يتردّد في سمعنا إلى الأبد، تنادي علينا، فنجيبك حفاة: أن نعم. وسيذكر لك قومك: تواضعك، طيبة قلبك، سلامة نيتك، أعمالك الإنسانية وحبك الكبير لهم.
فاسأل الله الكريم الرحمن الرحيم، أن يغفر لك ويجزيك عنَّا كل خير، وأن يرحمك، لا أقول بقدر ما قدمت لنا، ولبلادك، ولأسرتك الصغيرة، والكبيرة، بل بقدر كرم الله عزَّ و جلَّ، ورحمته التي وسعت كل شيء، وأن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة، وأن يبدلك داراً خيراً من دارك، وأهلاً خيراً من أهلك، ويجعل نزلك الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يجمعنا بك في دار الخلود، وأن يجبر كسرنا، ويجيرنا في مصيبتنا، ويعيننا على الصبرعلى فراقك.
فنم قرير العين هانئها، والوعد أن نظل على العهد إلى الأبد: نسير على خطاك، ونتلمس طريقك، ولاءً للعقيدة، وفاءً للقيادة الرشيدة، حباً للوطن، إخلاصاً للشعب كله، صلة للرحم، بذلاً للمعروف وإصلاحاً لذات البين، وسنكون دوماً عند أكثر من حسن الظن بنا كما علمتنا وتمنيت لنا.
ابنك المكلوم/ بندر بن عبد الله بن تركي