حظيت الحاجة صافية من شيخ القرية وحرمه وسكان القرية رجالاً ونساءً خلال وجودها لديهم، بالرعاية وكرم الضيافة وحسن الوفادة، وعادت إليها صحتها، وقررت لنساء القرية وفتياتها، مجلساً أسبوعياً تقدم فيه نشاطات دينية مختلفة تارة في قراءة القرآن وتفسيره وأخرى في شرح الأحاديث وما يستفاد منها والمواعظ الهادفة ممّا جعلهن يرتبطن بها ارتباطاً روحياً قوامه المحبة والألفة والتقدير.
عاد رفاق الحاجة صافية بعد أن أدوا حجهم، والتقى مسؤول الحملة وبعض رفاقه، بشيخ القرية وقدموا له الشكر والعرفان على ما قام به هو وسكان قريته من عناية واهتمام وخدمة للحاجة صافية، وطلبوا منه السماح باصطحابها معهم لمخيّم الحملة استعداداً لمواصلة العودة لديارهم.
ونظراً للتأثير الودي الذي أوجدته الحاجة صافية في نفوس أهالي القرية رجالاً ونساءً، فقد طلب شيخ القرية من مسؤول الحملة ورفاقه، أن يعرضوا عليها البقاء والعيش معهم طالما لا تربطها ببلدها أي رابطة لا بسبب ولا نسب، وسيقوم شيخ القرية وأعيانها، بتأسيس مدرسة لتعليم القرآن وحفظه، وتسند مسؤوليتها إليها ((تعليماً وإشرافاً))، وسيعتبرونها واحدة من سكان القرية لها مثلما لهم من حقوق وواجبات.
عرضت عليها الرغبة، فأجابت والحزن على فراق القرية وأهلها يسيطر على محياها قائلة: كان بودي العيش والإقامة ما بقي من عمري في هذه القرية بين أهلها الكرماء الصالحين، وعلى أرضها الطيبة، ولكن ارتباطي الروحي، يظل منغرساً في بيتي ومدرستي ومزرعتي، أستأنس بذكرياتي مع والديّ -رحمهما الله- ونشأتي مع رفيقاتي من صبايا القرية وجيل النساء اللائي تعلمن القرآن وعلوم الدين على يديّ، كل هذه الأطياف، تظل ماثلة في حضوري وغيابي، تجبرني على العودة، والعيش هناك ما دامت الحياة ((وحب الوطن من الإيمان)).
وودعت الحاجة صافية القرية وناسها منكسرة حزينة على فراقهم إلى مخيم الحملة، واستقبلت من رفاق الرحلة بشوق وفرحة، وتقرر سفرهم في اليوم التالي.
استيقظت الحاجة صافي على صوت مؤذن الفجر، وقامت تقضي حاجتها خارج الخيمة، وفي عودتها، أحست بأن رمحاً انغرس في لحمة ساقها اليمنى، فصاحت بأعلى صوتها: ملدوغة .. ملدوغة..، فاستيقظ من حولها، وأسرع حكيم الحملة لإسعافها، ورغم اجتهاده، إلا أن القدر كان فوق الأمل، فقد استشرى سم الأفعى إلى شرايين القلب، وفارقت الحياة بعد هنيهة، وعُثرعلى الأفعى مختبئة في جانب الخيمة وقتلوها.
سمع شيخ القرية وبعض سكانها بالحادث، وهرعوا إلى مخيم الحملة، وكان الموقف مؤلماً وحزيناً، ليس على رافق الحملة فحسب، بل على شيخ القرية وسكانها رجالاً ونساءً، وتمت الصلاة عليها عقب صلاة الظهر، ودفنت بمقبرة القرية، وقدم شيخ القرية وسكانها العزاء لرفاق الرحلة ومسؤولها، بعدها واصلوا رحلة العودة إلى ديارهم اليمنية والحزن يسيطر على أجوائهم في فقد رفيقة رحلتهم،وأفضل نساء قريتهم ديناً وخلقاً وعلماً وصلاحاً.
خاتمة، رحم الله الحاجة صافية، أرادت أداء الركن الخامس من أركان الإسلام للمرة الثالثة، فحال المرض دون ذلك، وأرادت العودة مع رفاق الرحلة ليمنها السعيد بعد شفائها، لكن الأجل حال دون ذلك أيضاً، ولله في خلقه شؤون.
قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} -34 لقمان-
وصدق القائل: (ومن تكن منيته بأرضٍ فليس يموت في أرضٍ سواها).